بخطاهم المثقلة يجرّون أقدامهم كأنما يسيرون فوق أنفاسهم الأخيرة. يغادرون أقبية السجون على هيئة أشباح وهياكل عظمية، تحمل أجسادهم حكاية الوقت المرّ الذي قضوه في الأسر، وتكشف الصورة الحقيقية لما يجري في الداخل في الوقت الذي يعيش فيه الأسرى واحدة من أسوأ الحقب الزمنية التي مرت على الحركة الأسيرة.
اليوم يمارس السجّانون حرية مطلقة في الاعتداء على الأسرى والأسيرات على حدٍّ سواء؛ لا منظمات حقوقية تتابع ما يحدث في هذا المعزل عن العالم، وزيارات الصليب الأحمر منقطعة، وعراقيل واهية تمنع زيارات محامي مؤسسات الأسرى، ما يضطر العائلات إلى تعيين محامين خاصين يتقاضون أجورًا باهظة، ثم ينقلون رسائل مجتزأة، باهتة المشاعر، لا تقدّم الحد الأدنى من الطمأنينة التي يبحث عنها الأهالي. وحتى الحلقة الوحيدة التي كانت متاحة لملاحقة أخبار الأسرى باتت مهددة؛ إذ يعمد الاحتلال إلى تهديد الأسير المحرر فور خروجه بألا يتواصل مع ذوي الأسرى ولا يظهر أي مظهر فرح أو استقبال خارج سياق الأخبار العامة، وإلا سيعود إلى مقابر الاعتقال مرة أخرى. ما يعني عزلاً تامًا يعاني منه جميع الأسرى في كافة السجون.
إن استمرار حالة الطوارئ التي أعلنها الاحتلال كذريعة بعد أحداث السابع من أكتوبر، دون أي مبرر حقيقي لاستمرارها، يكشف رغبته في إحكام قبضته الأمنية على السجون وتصعيد إجراءاته القمعية، في ظل غياب الرقيب والحسيب. الحرية المطلقة للمعاملة التي ترقى للقتل المتعمد باتت الآن متاحة بين يدي السجّانين أكثر من أي وقت مضى، والدموع التي يذرفها الأسرى المحررون –والتي لم يعهدها المجتمع الفلسطيني القوي من قبل– خير شاهد على أن الاحتلال لا رادع لانتهاكاته اليوم ولا في المستقبل المنظور.
لقد شكّلت حرب السابع من أكتوبر تقويمًا جديدًا للأسرى، بشهادة محررين وأسرى زارهم المحامون، من بينهم أصحاب أحكام مؤبدة وقيادات تمثّل رمزًا للصمود؛ وانتهاك رمزيتهم يعني استهداف الحركة الأسيرة ككل. فقد أكدت شهادات المحامين أن السجّانين يقفون خلف الأسير أثناء الزيارة يراقبون ما سيقوله، ويتم جره إلى قاعات الزيارة كما تُساق الأنعام دون مراعاة لأي مظهر إنساني. ويظهر الأسرى بحالة من الهزال الشديد مع طفح جلدي بسبب مرض السكابيوس، وتورم في العينين يشير إلى تعرضهم للضرب قبل الزيارة وبعدها، إلى جانب آثار الكلبشات التي حفرت خنادق في أيديهم، مؤكدة أنها أصبحت عادة يومية.
تحولت الزنازين إلى مقابر للتعذيب والضرب اليومي، لا يميز الاحتلال فيها بين أسيرٍ وأسيرة، شيخ أو طفل. يبدأ مسلسل الإجرام منذ لحظات الاعتقال الأولى؛ إذ يعمد الاحتلال إلى تدمير المنزل بالكامل وتخريب الأثاث والاعتداء على ذوي الأسير قبل اعتقاله، ثم يُضرب الأسير أمام عائلته وخلال نقله في الجيب العسكري. كما ينتهج الاحتلال أساليب جديدة في الاعتقال، منها إجبار الأسرى على تقبيل العلم الإسرائيلي وتصويرهم مغمّمين ومن خلفهم العلم، لإضعاف الحاضنة الشعبية ولإذلال الأسرى. جميع السجون تحوّلت إلى زنازين عزلٍ انفراديّة وأصبحت مناطق عسكرية مغلقة.
لقد دفعت الحركة الأسيرة ثمنًا من أجسادها ودمائها في معارك الأمعاء الخاوية، وبعد انتصارها حققت إنجازات عديدة. أما اليوم فقد سُحبت كل تلك الإنجازات: لا تلفاز، لا إذاعة تربطهم بالعالم، لا أجهزة طهي، لا مواد تنظيف، ولا ملابس تقيهم برد الشتاء القادم، ولا أغطية كافية، ولا أسرّة. اكتظاظ يفاقم انتشار الأمراض، وإهمال طبي متعمد يقدم للأسير المريض حبة "أكامول" وكأنها حلٌّ سحري لكل الأمراض على حد قول الأسرى. لا شيء يذكّر الأسير بالحياة الآدمية. السجون اليوم تفتقر لأدنى متطلبات العيش، ويُمنع الأسرى من ممارسة شعائرهم الدينية. وأكد أسرى محررون أن التنكيل أصبح وجبة يومية، وأن الطعام الذي يُدخل لتسعة أسرى لا يكفي لإشباع أسير أو أسيرين.
أما أسرى قطاع غزة فهم الأكثر معاناة. تؤكد شهادات محررين أن أساليب تعذيب نفسية تُمارس بحقهم لا يمكن تصديقها؛ يُطلب منهم رسم صور على الحائط والتحدث إليها، ويُهدد كثيرون منهم بأعراضهم ونسائهم. وليس أدل على ذلك من قضية الأسيرة المحررة تسنيم الهمص، ابنة الدكتور مروان الهمص.
فقد اختُطف الدكتور مروان الهمص أثناء توجهه لمهمة عمل في مستشفى اللجنة الدولية للصليب الأحمر في منطقة المواصي جنوب خانيونس بتاريخ 21/7/2025. وبعد نحو أربعة أشهر اختطفت قوة خاصة ابنته الممرضة تسنيم الهمص، التي أكدت عقب تحررها أن اعتقالها جاء فقط للضغط على والدها، الذي لا يعرف أحد مصيره حتى اللحظة.
روت تسنيم الهمص تفاصيل اعتقالها، حيث نُقلت بين عدة سجون، منها عسقلان ومجدو والدامون، ومكثت قرابة شهر في عزل عسقلان قبل نقلها إلى الدامون. وأخبرها السجّان صراحة أن اعتقالها جاء كأسلوب ابتزاز لوالدها. وخلال فترة اعتقالها عايشت أوضاع الأسيرات وأكدت سوء المعاملة: شتمٌ دائم، قمع دوري، رش بالغاز، واعتداء بالضرب، وقد شهدت اعتداءً على أسيرة ضُربت على رأسها داخل الدامون.
وجه تسنيم الهمص لحظة تحرّرها، وجسدها النحيل ودموعها، كان صورة حيّة وبليغة عن حقيقة ما تعيشه الأسيرات. كما تؤكد شهادات المحامين أن الأسيرات يفتقرن لأدنى مقومات الحياة: طعام شحيح، ملابس قليلة، مصادرة قطع من ملابس الصلاة، وتقنين أدوات النظافة، إضافة إلى سياسة تجويع وإهمال طبي مشابهة لما يعانيه الأسرى.
ولا يراعي الاحتلال الطفولة كذلك؛ ففي مارس 2025 استُشهد الأسير الطفل وليد أحمد (17 عامًا) من بلدة سلواد نتيجة سياسة التجويع والتنكيل في سجن مجدو. وكشف تقرير التشريح أن استشهاده جاء بسبب انتفاخ وتكتلات هوائية في القلب والرقبة والصدر والبطن والأمعاء، وضمور شديد في الجسم، وانتشار طفح جلدي، وجفاف ناتج عن قلة شرب الماء. ويمثل ذلك واحدة من أبرز الجرائم منذ بدء حرب الإبادة على غزة. واليوم هناك نحو 350 طفلًا موزعين بين مراكز التحقيق والاعتقال والتوقيف، بينهم طفلتان أسيرتان محرومتان من حق التعليم. ومنذ الحرب وفرض حالة الطوارئ اعتُقل أكثر من 1630 طفلًا من الضفة وقطاع غزة.
أما أسرى قطاع غزة المصنّفون "مقاتلين غير شرعيين" — وعددهم يفوق 1205 أسرى — فهم الأكثر تضررًا، إذ تُمارس بحقهم صنوف تعذيب تنتهك كل القوانين الدولية، وتؤكد شهاداتهم أن الاحتلال يتعمد تصفية الأسرى، إن لم يكن جسديًا فعلى الصعيد النفسي والإنساني.
اليوم يقع على عاتق المنظمات الحقوقية إجراء تحقيقات حول جرائم التعذيب في السجون، والوقوف بوجه قانون إعدام الأسرى الذي يلوّح به بن غفير ضد من تتهمهم سلطات الاحتلال بقتل مستوطنين أو جنود، ما يفاقم قلق عائلات الأسرى، خصوصًا أصحاب الأحكام المؤبدة الذين رفض الاحتلال الإفراج عنهم في جميع صفقاته مع المقاومة. يجب تمكين المؤسسات الحقوقية والصليب الأحمر من زيارة الأسرى لمعرفة حقيقة ما يجري، وتمكين الأهالي من الاطلاع على أوضاع أبنائهم بشكل مباشر، لا من خلال محامين ورسائل مجتزأة.