أعمار معلّقة خلف القضبان: سردية أربعة أسرى من القدس
تقرير/ إعلام الأسرى

على امتداد سجون الاحتلال، تبدو بعض الزنازين وكأنها صناديق مغلقة على زمن لا يتحرك. في أربعٍ منها، تعيش أصوات مقدسية اختفت عن العالم منذ عقود، لكن حكاياتها ما زالت تتنفس رغم الجدران. هذا التقرير يحاول أن يجمع تلك الأصوات، لا كملفات قانونية، بل كقصص بشرية متراكمة، كعمرٍ كامل محشور في مساحة ضيقة.

أكرم القواسمي… رجلٌ يصنع ضوءه بنفسه

عندما اعتُقل أكرم عام 1996، كان في السادسة والعشرين. لم يعرف حينها أن السنوات المقبلة ستتكدّس فوقه حتى تتجاوز الثلاثين.

في زنزانته التي تغيّرت أكثر مما تغيّر وجهه، كوّن عالمًا مختلفًا: كتب، دفاتر، وملاحظات صغيرة يخفيها تحت فراشه كأنها مقتنيات ثمينة.

كان السجن يتعامل معه كرقم طويل، لكنه قرر أن يكون أكثر من ذلك. لذلك أعاد دراسة الثانوية، ثم فتح بابًا إلى الجامعة، وآخر إلى الماجستير، وثالثًا إلى الدكتوراه. صار يكتب، يدوّن، ويحوّل الأيام الثقيلة إلى سطور متماسكة.

عام 2022، خرج من العتمة كتابه “فضاءات الثقوب”، كأنّه محاولة لتسجيل كل ما حدث في مساحات لا يراها أحد.

أكرم لم يخرج من الباب بعد، لكنه استطاع أن يفتح نوافذ داخل رأسه، الأمر الذي لم تستطع القضبان منعه.

رائد أبو حمدية… السنوات التي تتكئ على جسد متعب

رائد لا يحبّ الحديث عن صحته. يفعل ما يفعله الكثير من الأسرى: يبتسم كي لا يقلق أحد.

لكن ثلاثًا وعشرين سنة من الإهمال الطبي تركت أثرها عليه. ملامحه تغيّرت، وصوته صار منخفضًا، ومع ذلك ما زال يحتفظ بهدوء لا يُفهم.

حين اعتقلوه عام 1997، كان الاحتلال يحتفل باعتقال “صاحب الملفات الثقيلة”. هو يعرف تلك الاتهامات جيدًا، لكنه يعرف أيضًا أن التحقيق الذي عاشه كان قادرًا على كسر جبل.

ومع ذلك، لم ينكسر. التحق بالتعليم داخل السجن، وأصدر كتابًا يكتب فيه عن المكان الضيّق الذي يتحرك فيه، وكيف يحاول أن يسرق من كل يوم جملة أو ذكرى أو فكرة.

ثمانٍ وعشرون سنة… وما زال يقاوم بهدوء يشبه الصمت، لكنه ليس صمتًا مستسلمًا.

حسام شحادة… القصيدة التي انقطعت فجأة

كان حسام يكتب شعرًا في السجن. يملأ الدفاتر بقصائد يرسلها لأمه التي تنتظر على باب المنزل بفستانها الأسود.

لكن منذ بدء الحرب على غزة، توقفت القصائد. توقفت كما لو أن أحدًا أغلق بابًا داخليًا في قلبه.

حياته في الأسر تمتد منذ عام 2002. ستة مؤبدات تضعه في منتصف قصة لا تبدو قريبة من النهاية.

يتحدث عنه رفاقه كـ “صوت مقدسي معتّق”، رجل يكتب بروح طفل يتمنى أن يعود إلى حضن أمه، وبقلب مقاتل يعرف ثمن الطريق الذي سار فيه.

الأم تكبر، تنتظر، وتضع يدها على الهاتف كل يوم. لكن منذ أكثر من عامين، لم يصلها أي خبر.

حسام هناك، في زنزانة ضيّقة، يواجه عزلًا قاسيًا، ولا يسمع إلا صوت خطوات الجنود. قصائده متكدّسة، لكنها لا تخرج.

علاء الدين العباسي… الباقي الوحيد من خلية سلوان القسامية

علاء الدين هو آخر رجل من مجموعته ما زال خلف الجدران. اعتُقل عام 2002، بينما خرج رفاقه في صفقة 2011. بقي وحده، وكأن الزمن اختار أن يتركه في الممر الأخير من الحكاية.

السنوات لم تمرّ خفيفة عليه، لكنه تعامل معها كشيء يمكن ترويضه.

تعلّم العبرية، أكمل البكالوريوس، حفظ التجويد، وصار يعلّم غيره.

وفي الوقت ذاته، كان يفقد أشياء لا يمكن تعويضها: والده الذي مات دون وداع، وزيارات عائلية انقطعت مع الطوارئ والحرب، وأطفال كبروا وهو يراهم فقط في الصور.

علاء لا يشتكي، لكنه يقول جملة واحدة دائمًا: “الوقت داخل السجن لا يشبه الوقت خارجه… هنا كل دقيقة عمر.”

ما وراء الحكايات…

عند جمع قصص الأربعة، يتكرر المشهد نفسه:

عزل طويل، منع زيارات، إهمال طبي يهدد الحياة، وتحقيقات قاسية تشهد عليها جدران لا تتكلم.

هذه ليست تفاصيل متناثرة، بل نمط ثابت يضرب كل المعايير القانونية التي يفترض أن تحمي الأسرى.

في القانون الدولي، ما يحدث لهم يدخل في باب الانتهاكات الواضحة. لكن في الواقع، هذه الانتهاكات تتحول إلى حياة كاملة، إلى أعمار تُستنزف دون محاسبة.

أكرم، رائد، حسام، وعلاء… أربعة رجال عاشوا زمنًا طويلًا خلف القضبان، لكن قصصهم بقيت مشتعلة رغم أنف العتمة.

صوتهم اليوم ليس مجرد مطالبة بالحرية، بل مطالبة بأن يُرى الإنسان داخل السجن، وأن يُسمع صوته قبل أن يختفي تمامًا خلف الزمن.

هؤلاء الأربعة ليسوا حكايات من الماضي؛ إنهم حاضر حيّ يطرق جدارًا لا يسمعه أحد… بعد.

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020