لم تكد ذكريات منزلهما السعيد تتشكّل حتى غاب طيفه عن المشهد، وأصبح أسيراً يخوض برد الشتاء في سجن النقب الصحراوي، تاركاً خلفه زوجةً لم تعش معه سوى نحو شهرين فقط، لتتحول اليوم إلى الجندي المجهول في معركة اعتقاله. كان كلاهما يحلم بحياة هادئة وأنفاسٍ مطمئنة وذكرياتٍ جميلة، غير أن منزلهم الهادئ تعثّر ذات ليلة بجنود الاحتلال الذين خربوا أثاثه، ودمّروا ذكرياتهما الحديثة، وخطفوه من بيته ليصبح رهن الاعتقال الإداري بلا سقف ولا أمان.
تعيش زوجات الأسرى الإداريين معادلةً قاسية منذ حرب السابع من أكتوبر؛ فالأوامر الإدارية لم تعد بسقفٍ زمني، ولم تعد السنوات الطويلة عائقاً أمام تجديد الاعتقال. الأوامر الجوهرية فقدت معناها، وعشرات العائلات باتت تترقب لحظة الإفراج عن أبنائها، فتجهّز نفسها وتتوجه إلى أماكن الإفراج حاملةً وعوداً من المحامين بأن الليلة ستكون ليلة الحرية، قبل أن تُفاجأ بأن حفرة الأوامر الإدارية اتّسعت من جديد، فيعود الأسير إلى زنزانته، وتعود العائلة لقتال شبح الانتظار.
زوجة الأسير محمد راسم عبد الفتاح أحمد (26 عاماً)، من قرية عصيرة القبلية قضاء نابلس، عاشت هذه الوعود المتكسّرة. كانت تترقب حريته لحظةً بلحظة، ورغم أن مخابرات الاحتلال أبلغت العائلة عند آخر تجديد إداري—وكان لمدة أربعة أشهر—بأنه سيكون التجديد الأخير، وأن الإفراج سيتم في موعده، تفاجأت العائلة يوم الإفراج نفسه بأن أربعة أشهر جديدة أُضيفت كأمرٍ إداري آخر، وسُلبت منه أنفاس الحرية مرة أخرى.
كان الاحتلال قد داهم منزل الأسير محمد راسم بتاريخ 31/5/2023، واقتحم الجنود البيت ودمّروا أثاثه وضربوه أثناء الاعتقال، قبل نقله إلى السجن. وأكمل حتى اليوم 30 شهراً في الاعتقال الإداري المتجدد، بثمانية أوامر إدارية تتراوح بين 4–6 أشهر. ومع حالة الطوارئ، قضت إدارة السجون على السقف الزمني لهذا الاعتقال، إذ تُمعن في الانتقام من الأسرى وسلب أعمارهم وصبر عائلاتهم تدريجياً.
وليس الاعتقال الإداري وحده ما يثقل قلب زوجته. تقول في حديثها لمكتب إعلام الأسرى: "يعاني محمد من وجود كلية واحدة فقط، وهذا يسبب له أوجاعاً كثيرة. كما يعاني من تضرر في عينه اليسرى، ولا يستطيع الرؤية فيها بشكل جيد بعدما تعرّض للضرب عليها خلال إحدى زيارات المحامي."
أخبر الأسير محمد راسم عائلته، عبر المحامي، بإصابته بمرض السكابيوس، وهو مرض يسبب حكة شديدة ودمامل ويؤثر على الحياة اليومية للأسرى، وتزداد معاناته مع برد الشتاء القارس في سجن النقب الصحراوي. وتواجه عائلته كذلك صعوبة في زيارات المحامي؛ فقد تم إبلاغهم في آخر زيارتين بأنه نُقل إلى سجن آخر، قبل أن يكتشفوا لاحقاً أنه ما يزال في السجن ذاته، ليضطروا من جديد لحجز موعد زيارة يطول انتظاره. كل ذلك يُمارس بهدف التضييق على الأسير وعائلته.
تصف زوجة الأسير اعتقاله بأنه "صعب جداً"، إذ لم يُتح لهما أن يعيشا بأمان، فقد تزوّجا قبل شهرين فقط من اعتقاله، ثم اختُطف من بيته في لحظة، لتصبح العائلة منذ ذلك اليوم تطارد أخبار الزيارات والأسرى المحررين، في ظل غياب حق الزيارة للأهالي، وحتى اليوم لا تعرف أي سقف زمني لاعتقاله.
كان الأسير محمد راسم قد خاض تجربة الاعتقال سابقاً، وحُكم حينها بالسجن لمدة سنتين وعشرة أشهر. إلا أن اعتقاله الحالي يختلف تماماً، لأنه يأتي في مرحلة تعاني فيها السجون من أوضاع مأساوية، وسياسات تجويع وإهمال طبي متعمّد، يرافقها انقطاع الأسرى عن العالم الخارجي، وإجبار الأهالي على متابعة أخبارهم عبر المحامين الذين يصعب وصولهم، أو عبر أسرى محررين يتعرضون للتحذير من الإفصاح عن أوضاع السجون. وفي الوقت ذاته يعرقل الاحتلال زيارة المحامي، ويمارس سياسة الضرب بحق الأسير قبل الزيارة وبعدها، ليحرمه من آخر متنفسٍ له، ومن مصدر المعلومة الوحيد عمّا يجري خارج زنزانته.