لم تكن الحرية التي تنفّسها الأسرى المحررون من قطاع غزة تشبه الحياة، بل بدت كعبورٍ من قبرٍ إلى آخر، من ظلمة الزنازين إلى وجعٍ أكبر ينتظرهم في عالمٍ تغيّر تمامًا، خرجوا بأجسادٍ منخورة، وجوهٍ شاحبة، وأعينٍ غارقة في الهزال، يحمل كلٌّ منهم حكايةً تصلح لأن تُكتب بالدمع لا بالحبر.
كانوا يظنون أن السجن هو النهاية، لكنهم حين عبروا بوابات “الحرية” أدركوا أن ما عاشوه في سدي تيمان والنقب وعوفر وأقسام التحقيق ليس إلا فصلاً من فصول جحيمٍ بشريٍّ منظم، لا يعرف الرحمة ولا حدود الألم.
“هدية الوداع”.. أيام الضرب الأخيرة
روى الأسرى المحررون أن الأيام التي سبقت الإفراج كانت الأكثر قسوة، وسمّتها إدارة السجون بـ“هدية الوداع”. كانت الهراوات تنهال على الأجساد الممزقة، يُضرب الأسير على جراحه القديمة، يُعلَّق من يديه لساعات طويلة، وتُطفأ السجائر في جلده، فيما أصوات الجنود تختلط بضحكاتٍ هستيرية لا تشبه البشر.
الأسير المحرر د. أحمد مهنا، مدير مستشفيات العودة، قال إن الاحتلال عامل الأطباء المعتقلين بعنفٍ غير مسبوق، وإنه رأى زملاءه يُكسرون ويُتركون بلا علاج حتى الموت. أما الأسير المحرر إسلام أحمد، فشبّه ما رآه في سدي تيمان بأنه “أشد فظاعة مما سمعناه عن سجن أبو غريب”.
“مقابر بلا صوت”
كانت الزنازين ضيقةً مظلمةً رطبة، تُوزع فيها البطانيات لأربع ساعات فقط يوميًا، ثم تُسحب، فينام الأسرى على الأرض الباردة، الماء شحيح، والطعام فاسد، والهواء محمّل برائحة الجلد المحروق.
في تلك المقابر التي لا يُسمع فيها سوى صرخات العذاب، انتشرت الأمراض الجلدية، وتحوّل الجسد إلى سجنٍ داخل سجن.
الأسير ناجي الجعفراوي وصفها بـ“الموت البطيء”، بينما قال عبد الحميد عليان: "كنا ننام معصوبي الأعين طوال اليوم، لا نرى الضوء، ولا نسمع إلا الصراخ".
وآخرون أجبروا على ضرب بعضهم بالأحذية، ومن رفض صُعق بالكهرباء أو شُبح حتى الإغماء.
حين تذوب الرؤية في الظلام.. قصة محمود أبو فول
من بين القصص التي تدمع لها القلوب، تبرز حكاية الأسير محمود أبو فول (28 عامًا)، الذي اعتُقل من مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة، فكانت بداية رحلةٍ نحو العمى.
ضربوه بعنفٍ متكرر على رأسه من الأمام والخلف خلال التحقيق، حتى فقد بصره تمامًا. ثمانية أشهر عاشها في ظلامٍ دامس، لا يرى فيها سوى ألمٍ لا ينتهي، ثم خرج من السجن فاقدًا لبصره وقدمه المبتورة.
اليوم يعيش محمود نازحًا في خيمةٍ منسية على أطراف غزة، يمدّ يديه نحو الضوء الذي لم يعد يراه، ويقول بصوتٍ متهدّج: “كنت أتمنى أطلع من السجن ولو بعين واحدة أشوف فيها أمي… بس طلعِت وما عاد فيّ أشوفها.”
أجساد خرجت… وأرواح بقيت هناك
الأسير المحرر أحمد الزيان وصف أيام السجن بأنها “موتٌ بطيء، مقاطع فيديو حية للعذاب”، فيما حمل أسير آخر مسبحةً صنعها من فتات الخبز كرمزٍ صغير للبقاء، وهو يردد: "هاد الاشي الوحيد الي قدرت أطلعه من سجن النقب، والله عملتها من الخبز".
الكثيرون خرجوا على كراسٍ متحركة، وآخرون لم يجدوا عائلاتهم التي استُشهدت خلال الحرب، فكانت حريتهم فاجعةً مضاعفة.
المؤسسات الطبية بغزة قالت إن الأسرى الذين وصلوا إلى المستشفى “بدوا كأنهم خرجوا من تحت الأنقاض، منهكون، مبتورو الأطراف، مصابون بإعاقات دائمة”.
حين التقت الدموع بالحرية
حين وصل الأسرى إلى غزة، لم يكن الاستقبال عادياً. كانت الأمهات ينتظرن على الأرصفة بأذرعٍ مفتوحة وقلوبٍ مرتجفة، بعضهن يحمل صورةً لابنٍ لا يعرفن إن كان سيخرج أم لا. صرخات الفرح امتزجت بالدموع، والقبلات الأولى كانت ترتجف على وجوهٍ أنهكها السجن.
الأسير هيثم سالم، الذي صنع سوارًا لابنته بمناسبة ميلادها، وصل وهو يظن أنه سيحتفل بها، ليكتشف أن زوجته وطفلته وأولاده الآخرين استشهدوا جميعًا في الحرب. انهار بالبكاء على الأرض، وكأن العالم انهار معه، ولم يكن للفرح مكان بين يديه، سوى ألم الفقد الكبير.
الشاب شادي أبو سيدو خرج من السجن وهو لا يزال ضعيفًا وجائعًا، قائلاً: "اعتقلت جوعان، وقضيت كل السجن جوعان… وطلعت جوعان… وكل شوي يحكوا النا قتلنا أولادكم… وبطل في غزة."
ولكن عندما وصل، اكتشف أن غزة نفسها تغيرت، وأن حكاية البقاء لم تكن كما تخيل، فكانت الحرية هناك بطعم المفاجأة المرة، ممزوجة بالوجع والصدمة.
امرأة احتضنت ابنها وهي تبكي قائلة: "كنت مفكرة راح تموت هناك يا يمه… يا الله شو ضعفت!"، أما هو فابتسم بصوتٍ مبحوح: "ما متت… بس عشت الموت كل يوم."
كانت الحرية في تلك اللحظة كأنها امتحان جديد للبقاء، فكل من خرج حمل على كتفيه ذاكرةً ثقيلة لا تُغسلها الدموع، ووجعًا لم تنسه المقابر التي خلفهم.
حرية بطعم التراب
خرجوا إلى الحرية، لكن الحرية لم تحتضنهم؛ بل بدت كحافة الهاوية بين الحياة والموت. وجوههم الغائرة، جراحهم المفتوحة، وأصواتهم المبحوحة تروي أن ما يحدث في سجون الاحتلال ليس مجرد انتهاكات، بل مجزرة بطيئة بحق الإنسان الفلسطيني.
يقول أحد الأسرى وقد جلس أمام باب خيمته في المخيم، يحدّق في العدم: "كنا نحلم بالحرية كضوءٍ في آخر النفق… ولما وصلنا، اكتشفنا إن النفق ما خلص، هو بس تغيّر شكله."
هم أحياء… لكن أرواحهم لا تزال هناك، خلف القضبان، حيث المقابر بلا صوت.
يؤكد مكتب إعلام الأسرى أن شهادات الأسرى المحررين الغزيين من سجون الاحتلال تعكس الواقع المأساوي للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وتجسد المعاناة الإنسانية العميقة التي عاشوها خلال الاعتقال، بما في ذلك التعذيب الجسدي والنفسي، الحرمان من الغذاء والدواء، والضرب العشوائي، والعزل القسري، وممارسات الإهانة والتهديد المتعمد.
إن القصص التي وردت في الشهادات، من فقدان البصر والأطراف إلى انهيار الأسرى أمام خبر استشهاد أحبائهم، تُظهر أن الحرية التي خرجوا إليها كانت امتدادًا لمعاناتهم داخل الزنازين، وتؤكد أن الانتهاكات ضد الأسرى تمثل حربًا ممنهجة ضد الإنسان الفلسطيني.
يدعو مكتب إعلام الأسرى المجتمع الدولي والمؤسسات الحقوقية إلى تحمل مسؤولياتهم تجاه الأسرى، والعمل العاجل لكشف هذه الانتهاكات، ومحاسبة الاحتلال على جرائمه المستمرة بحقهم، لضمان حقوقهم الإنسانية وكرامتهم، ووقف سياسة القمع والتجويع والتعذيب داخل السجون.
أخيرًا.. خرج الأسرى المحررون من السجون بأجسادٍ مهشمة، بأرواحٍ نصف ميتة، يحملون في عيونهم كل دموع من لم يعودوا بيننا… غزة استقبلتهم، لكن لا شيء يستطيع أن يضمّ قلوبهم المحطمة بعد العذاب والوحشية.