في الذكرى الأولى لرحيله، تعود سيرة القائد الشهيد يحيى السنوار لتُذكّر بأن بعض الرجال لا تقتصر حياتهم على أعمارهم، وإنما تمتد إلى ما بعد الفقد لتصبح فصولًا من تاريخ يصعب طيّه.
لم يكن السنوار مجرد قائد ميداني أو سياسي، هو أسير محرر عاش خلف القضبان أكثر من اثنين وعشرين عامًا، تحوّل فيها السجن إلى مدرسة فكرية وتنظيمية شكّلت وعيه وصاغت قناعاته الراسخة بأن الحرية تُنتزع ولا تُمنح.
داخل السجن: من الزنزانة إلى القيادة
اعتُقل السنوار عام 1989 وحُكم عليه بأربعة مؤبدات، حول فيها السجن إلى منبر للوعي والمقاومة.
أتقن العبرية، وقرأ المجتمع الإسرائيلي من الداخل، وقاد صفوف الحركة الأسيرة في معارك الأمعاء الخاوية، والإضرابات عن الطعام، والمفاوضات لتحسين شروط الأسرى.
كان صلبًا في مواقفه، حازمًا في رؤيته، حتى لُقّب داخل المعتقلات بـ “الأسير رقم واحد”.
الحرية التي لم تُنسِه الأسرى
في أكتوبر 2011، خرج السنوار إلى النور في صفقة وفاء الأحرار التي حررت أكثر من ألف أسير فلسطيني مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط.
حريته لم تكن نهاية الرحلة وإنما بداية عهد جديد من الوفاء، فقد ظل يحمل همّ الأسرى كجزء من روحه.
قال السنوار بعد الإفراج عنه: السبيل الوحيد لتحرير الأسرى هو أسر جنود من جيش الاحتلال… لن نترك أسيرًا خلف القضبان.
منذ تلك اللحظة، أصبح ملف الأسرى محورًا ثابتًا في كل قرار يتخذه، وركيزة أساسية في فلسفته السياسية والعسكرية.
الأسر كقضية والواجب الأخلاقي
في مقابلة صحفية نادرة أجراها عام 2018، وصف السنوار قضية الأسرى بأنها التزام أخلاقي قبل أن تكون التزامًا سياسيًا.
قال بوضوح: سأبذل أقصى ما أستطيع لأحرر من هم ما زالوا بالداخل. هذا واجب أخلاقي لا يسقط بالتقادم.
هذا الالتزام الأخلاقي هو ما جعله يوجّه كتائب القسام لاحقًا إلى أن يكون تحرير الأسرى هدفًا استراتيجيًا لا يقبل التنازل.
من الأسر إلى المعركة الأخيرة
عندما اندلعت معركة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، كان السنوار مهندسها الميداني والعقلي، وقد أعلن أن كل خطوة فيها هدفها أن تفتح الطريق أمام أسرانا نحو الحرية.
وقد أثمرت تلك الرؤية عن صفقة طوفان الأحرار التي نجحت في إطلاق سراح ٣٩٨٥ أسيرًا فلسطينيًا على ثلاث مراحل، لتكون أكبر عمليات التبادل في تاريخ النضال الفلسطيني الحديث.
ولم تكن تلك الصفقة ثمرة الجهد العسكري وحده، بل ثمرة صمود الشعب الفلسطيني بكل فئاته، الذي واجه العدوان بثبات وإرادة لم تلن، وأثبت أن التحرير لا يتحقق إلا بوحدة الميدان وصبر الشعب وإيمانه بحقه في الحرية.
وظلّ القائد يقاتل في الصفوف الأولى ببسالة حتى الرمق الأخير، وبقيت عصاه شاهدةً على أنه قاوم حتى اللحظة الأخيرة، مجسّدًا ما عاش لأجله: الكرامة والمقاومة، حتى نال ما تمنى فارتقى شهيدًا ثابتًا على عهد الحرية
وفي رسائله الأخيرة قبل استشهاده، شدّد على أن تحرير الأسرى واجب لا يُؤجَّل، وأمانة في أعناقنا جميعًا.
إرث لا يُنسى
بعد عام على استشهاده، ما زالت وصاياه تُتداول بين الأسرى في الزنازين، وتُستعاد كأمانة في أعناق المقاومين.
لقد عاش يحيى السنوار كما أراد:
أسيرًا صلبًا، ومحررًا وفيًّا، ومقاتلًا حتى الرمق الأخير.
رحل الجسد، لكن بقيت الرسالة: الحرية عهد لا ينكسر، وواجب لا يُؤجَّل، حتى آخر أسير