في زمنٍ انقلبت فيه الموازين، حين صارت السجون بلا قانون، وحياة الأسير الفلسطيني رهينة قرار جنديٍ يعبث بمسدسه، خرج محمد صبحي محمد أبو طبيخ من جحيم السجون ليحمل وجع السنوات بصوتٍ يختنق بين الحكاية والدمعة.
أبو طبيخ، من محافظة جنين، اعتُقل عام 2002 وقضى 23 عامًا خلف القضبان، قبل أن يتحرر في صفقة "طوفان الأحرار" الثالثة.
لكن الحرية – كما يصفها – لم تمحُ وجع ما رأى في سجون الاحتلال، ولا سيما في سجني ريمون ونفحة، حيث الموت يتنفس مع كل جدار.
زمنٌ بلا قانون.. الجيش يحكم والسجان يطلق النار
يروي أبو طبيخ أن حياة الأسرى بعد بدء حرب الإبادة على قطاع غزة منذ عامين تغيّرت بالكامل، إذ سُلب منهم كل شيء: الطعام، الشراب، الأغطية، الأجهزة الكهربائية، حتى حقّ الاستحمام الذي لم يتجاوز ثلاث دقائق في اليوم.
يقول: "السجون لم تعد تابعة للشرطة، بل للجيش مباشرة، وهذا يعني أن السجان يستطيع أن يطلق النار على أي أسير دون سبب، يضربه أو يشتمه دون أن يُحاسب أحد، لأن قانون الطوارئ صار هو الحاكم الوحيد."
ويضيف: "أدركنا أن الحرية ستتأخر، وأن الاحتلال يريد الانتقام بعد الضربة التي تلقاها في السابع من أكتوبر، لكننا كنّا نقول للشباب في الأقسام: لا بأس، فكل ما يُسلب منا سنستعيده حين نتحرر قريبًا بإذن الله."
قمعٌ يومي وتعذيبٌ متجدد
يتحدث أبو طبيخ عن أساليب التعذيب اليومية التي تحوّلت إلى روتين: "كانوا يأتون في منتصف الليل يرشّون الفلفل على الأسرى النائمين، أو يلقون قنابل صوتية داخل الغرف ويضحكون، فقط ليستمتعوا برؤية الألم والخوف. من يتحدث يُعاقب فورًا بالضرب أو العزل."
ويشير إلى أن محاولات الأسرى لتحسين ظروفهم عبر المحاكم لم تجدِ نفعًا: "حتى القرارات الملزِمة لا تُنفَّذ لأن بن غفير يرفضها. يزوّر الصورة أمام اللجان الرقابية، فيقدّم طعام الشرطة على أنه طعام الأسرى، لتظهر السجون وكأنها جنة بينما هي الجحيم ذاته."
غزة داخل السجون.. جحيم فوق الجحيم
يروي أبو طبيخ ما عاشه في سجن نفحة الصحراوي:"كنت في قسم 11، وأسفل قسمنا.. أقسام 13 و14 حيث يُحتجز أسرى قطاع غزة، قرابة 300 أسير. كنا نسمع صراخهم طوال الليل، صراخًا يشقّ الصمت حتى الفجر. تُسحب منهم الفرشات عند الخامسة صباحًا، وتُعاد في السابعة مساء، بلا أغطية أو ملابس أو دواء."
ويتابع: "الطعام المقدم لهم أسوأ مما يُعطى لأسرى الضفة. يُعاملون بعنفٍ شديد، يُضربون ويُكبّلون لأيام طويلة. بعضهم يُترك مقيّد اليدين للخلف لأربعة أيام أو أكثر دون طعام أو ماء. الأمراض تنتشر، الجرب دون علاج، والمهانة لا تُوصف."
ويروي مشهدًا يختصر الإذلال: "كان السجان يرسم حمارًا على الحائط ويأمر الأسير أن يركبه، وإن رفض – وهو لا يستطيع – ينهالون عليه ضربًا وسخرية. هذا ليس تعذيبًا جسديًا فحسب، بل تحطيم للكرامة والإنسانية معًا."
“سنستعيد كل ما سلبوه”
رغم كل القهر، ظلّ الأمل حاضرًا في قلوب الأسرى كما يقول أبو طبيخ: "قلنا لأنفسنا، إن المقاومة ستفرج عنا، فليأخذوا كل شيء، لا مشكلة. ما دام في الخارج من يقاتل لأجلنا، فسنخرج عاجلًا لا آجلًا."
ذلك الإيمان، وسط الجوع والبرد والظلام، هو ما أنقذ أرواحهم من الانكسار.
الحرية تُروى بالوجع
خرج محمد أبو طبيخ من السجن بعد أكثر من عقدين من القيد، لكنه لا يزال يحمل وجع الذين تركهم خلف القضبان، أولئك الذين يعيشون بين القهر والموت البطيء.
يختم قائلاً: "لم يعد هناك قانون يحكم السجون، فقط إرادة المحتل وغضبه. نحن الأحياء من بين الموتى، لكننا سنبقى نحكي حتى لا يُدفن الصوت مع الجسد."