في زاويةٍ من زوايا غرف سجن شطة، يجلس الأسير جمال عبد الفتاح الهور (55 عامًا) من بلدة صوريف قضاء الخليل، يقلب دفاتر عمره التي قضاها في السجون، ويسرد لجدرانها ما حملته من ذكريات. يتقن ذلك جيدًا، وهو الأديب والمفكر، لكنه حتى الآن لا يعلم أن صفقة الطوفان قد أُنجزت، وأن أسرى المؤبدات نالوا حريتهم، فيما عليه أن يقضي مزيدًا من السنوات إلى جانب حقيبةٍ تمتلئ بالصبر، وعليها أن تتسع للمزيد، بعدما منحته إدارة السجون إيهامًا انتقاميًا بالحرية.
اتبعت إدارة سجن شطة خلال صفقة الطوفان سياسة تعذيبٍ واستفزازٍ نفسي تضاف إلى سياسة التنكيل والتجويع وإيصال الأسرى حدَّ كراهية زيارة المحامين. فقد أبلغت الإدارة الأسير جمال الهور بأن يُخبر قسمه من الأسرى بأن حريتهم باتت قريبة، ليعود إلى قسمه ويزفَّ لهم الخبر، ثم تنتهي الصفقة من دون أن ينال حريته، ولا يزال حتى اليوم يجهل انقضاء أملها.
يواصل مكتب إعلام الأسرى عرض معاناة أسرى المؤبدات ضمن سلسلةٍ توثق نضالهم الطويل، وما يتعرضون له من تنكيلٍ وتجويعٍ وإهمالٍ صحي، إلى جانب إنجازاتهم داخل السجون، في محاولةٍ لإبقاء صورتهم النضالية حيةً في الوعي الفلسطيني والعالمي.
أكدت عائلة الأسير جمال الهور في حديثها لمكتب إعلام الأسرى أنه كان متواجدًا منذ بداية الحرب في سجن نفحة، ثم جرى نقله إلى سجن شطة بتاريخ 3/7/2025، مشيرةً إلى أن زيارته في نفحة كانت معدومة، حيث رفضت إدارة السجن زيارة محاميه له كليًا. وبعد نقله إلى شطة، زارته محامية بتاريخ 19/8/2025، وأبلغت العائلة بأنه خسر من وزنه نحو 35 كيلوغرامًا، وأنه بدأ يعاني من أمراض جلدية منتشرة في السجن.
وقالت العائلة: "حين دخل سجن شطة اضطر إلى استلاف ملابس من الأسرى، فأصيب بمرض جلدي (السكابيوس). وكان من الصعب شفاؤه منه بسبب انعدام النظافة في السجن، وحرمان الأسرى من استبدال الملابس. فالأسير يستحم ثم يرتدي ذات ملابسه، وحتى إن قُدِّم له علاج فلا يؤثر بسبب غياب ظروف النظافة الأساسية."
وعلمت العائلة عبر أسرى محررين في الصفقة الأخيرة أن جمال الهور يعاني من دمامل مؤلمة نتيجة المرض الجلدي، تعاوده بين الحين والآخر بسبب الإهمال الطبي والرطوبة التي تنخر جدران سجن شطة، وحرمان الأسرى حتى من حق غسل ملابسهم.
في أعقاب انتهاء صفقة طوفان الأحرار، تعتزم العائلة إرسال محاميةٍ جديدة لزيارته، بعد أن علموا مؤخرًا من أسيرٍ محرر أن جمال الهور لا يعلم بانتهاء الصفقة، ويعيش رفقة الأسرى في قسمه على أمل حريةٍ وشيكة، حتى إنهم يرتدون ملابسهم ويتهيأون للخروج ظنًّا منهم أن السجان سيفتح الأبواب في أي لحظة.
أكثر ما يؤلم العائلة أن الأسرى المحررين أخبروهم أن إدارة السجون طلبت الأسير للمقابلة وأبلغته بأن الصفقة ستتم، بل أوصوه بعدم الاحتفال داخل الغرف، وهددوا الأسرى بأن أي مظهر فرح سيقابل بالقمع والضرب.
وقد أكد الأسرى المحررون أن فرح جمال بوصول أنباء الصفقة كان كبيرًا، إذ قال لأسرى قسمه:
"جهّزوا أنفسكم، أسبوعٌ فقط ولن يبقى أسيرٌ واحد في السجون."
تقول العائلة: "كان منذ بداية الحرب مستبشرًا بالحرية، كطائرٍ أوشك أن يفرد جناحيه، يعدُّ الأيام ويودعها كأنها آخر عهده بالسجون. اليوم نكستنا كبيرة لعدم تحقّق حريته."
زوجته، التي سافرت إلى الأردن منذ أشهر طويلة، كانت قد غادرت خشية أن يُمنع سفرها كما حدث مع عائلات أسرى محررين كثر.
نجلاه تقي وأحمد، اللذان حُرما من رؤية أبيهما وعيش حياةٍ طبيعية معه، كانا ينتظران لحظة الحرية بشوقٍ كبير، لكنهما – ومع أمهما – حُرموا من هذا الحق. ولا تعلم العائلة إن كان الأسير يعيش داخل القسم أم أنه في العزل، إذ وصلهم في وقتٍ سابق أنه كان معزولًا في سجن نفحة رفقة الأسير عباس السيد، لكنهم اليوم لا يعلمون شيئًا عن حاله أو صحته بسبب انقطاع الزيارات.
كان جمال الهور يعاني منذ سنوات من آلام في المعدة، واعتاد الحفاظ على صحته بممارسة الرياضة والاهتمام بنظامه الغذائي، لكن بعد تطبيق سياسة التجويع وحرمان الأسرى من الفورة والاستحمام، وسحب إنجازاتهم كافة، لم تعد عائلته تعلم حالته الصحية الراهنة.
للأسير جمال الهور خمسة حفيدات، أكبرهن سيلا (7 سنوات)، التي لا تزال تستذكر مغامرة زيارتها لجدها، حين زارته على اسم أسيرٍ آخر لتراه للحظات دون أن تحظى باحتضانه. كما رُزق ابنه تقي بتوأم بعد حرب الإبادة على غزة، بلغ عمرهما سنةً ونصفًا، ولا يعرف الجد ملامحهما حتى اليوم.
كبر أولاده وتزوجوا دون أن يشاركهم الفرح، فيما توفيت والدته حزنًا عليه حين لم يُدرج اسمه في صفقة وفاء الأحرار الأولى.
رغم كل هذه الأحزان، رافق جمال الهور عائلته في أفراحها وأتراحها من بعيد، بقلبه وشوقه لحريةٍ مؤجلة.
الأسير جمال الهور صاحب مسيرة نضالية طويلة؛ اعتُقل أول مرة عام 1992 بعد شهرٍ واحد من زواجه، ثم أُعيد اعتقاله عام 1993، ونال حريته مجددًا بعد عام. وفي 10 نيسان/أبريل 1997 اعتُقل للمرة الثالثة، ومكث أربعة أشهر في التحقيق، قبل أن يصدر بحقه حكم بالسجن المؤبد المكرر خمس مرات، إضافة إلى 18 عامًا أخرى.
يعاني الأسير أيضًا من قطع راتبه منذ سنوات، وكان من أوائل الأسرى الذين طالتهم هذه السياسة. ورغم ذلك، بقي شعلة نضالٍ وفكرٍ وثقافة؛ فقد حصل داخل السجن على دبلوم تربية اجتماعية من الكلية التطبيقية في غزة، وبكالوريوس في التاريخ من جامعة الأقصى، وبكالوريوس في العلوم الإسلامية من جامعة الأمة، وماجستير في الشؤون الإسرائيلية والعلوم السياسية من جامعة القدس – أبو ديس.
له عددٌ من المؤلفات التي صدرت خلال اعتقاله، منها:
أعواد البرتقال، وكوني أنت (2016)
جمرات من عنب، نقاط وحروف (2017)
ليس مجرد زوج (2023)
كما كتب مؤلفات أخرى ما زالت بانتظار الحرية، منها: جدار الموت، خلية صوريف، الجماعة الإسلامية في سجون الاحتلال، وبوابة السماء.
وله أيضًا مجموعة مقالات منشورة في الصحف وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يزال قلمه نابضًا بالوعي والعطاء، ينتظر أن يتحرر هو أيضًا.