بعد عامين على السابع من أكتوبر، لا تزال أصداء الحرب الإسرائيلية تتردد في المكان الفلسطيني، كأنها لم تغادر يومها الأول.
في غزة تهدم البيوت فوق ساكنيها، وفي السجون تهدم الأجساد تحت وطأة التجويع والإهمال.
هنا وهناك، تتعدد أدوات القتل، لكن النتيجة واحدة: موت بطيء يتسلل إلى حياة الفلسطينيين حيثما وجدوا.
فالسجون التي طالما شكلت رموزا للصمود، تحولت بعد حرب الإبادة إلى مسارح للعقاب الممنهج، تدار فيها حرب صامتة على إنسانية الأسرى الفلسطينيين، وخاصة أبناء قطاع غزة، الذين وجدوا أنفسهم بعد عامين من العدوان في مواجهة موت متدرج، يطحن الجسد ويختبر الروح.
حرب أخرى خلف القضبان
منذ الساعات الأولى للحرب، أطلقت إدارة السجون الإسرائيلية ما وصفه الحقوقيون بـ"الخطة الانتقامية الشاملة"، لتحويل حياة الأسرى إلى جحيم يومي.
لم تكن السجون بعيدة عن دخان غزة؛ بل غمرها صدى الحرب بكل تفاصيله. أُغلقت الكانتينا، مُنعت الزيارات، قُلّصت وجبات الطعام إلى الحد الأدنى، وأُطفئت الكهرباء والمياه الساخنة لأيام متتالية.
أسرى بلا خبز ولا دواء ولا شمس، وكأنهم في مقابر جماعية مؤقتة تنتظر إعلان الوفاة.
وقد نقل المئات من أبناء قطاع غزة إلى معسكرات احتجاز سرّية، أبرزها سجن سديه تيمان الذي تحول إلى معتقل حرب بكل ما تعنيه الكلمة، حيث يُحتجز الأسرى مكبّلي الأيدي والأقدام، محرومين من الطعام والعلاج، وتُمارس بحقهم أشكال الإذلال والتعذيب الممنهج.
وفي الوقت الذي يصف فيه الاحتلال هذه الإجراءات بـ"التدابير الأمنية"، يصفها الحقوقيون بأنها إبادة صامتة، تمارس خلف الجدران بعيدًا عن عدسات العالم.
أرقام تتحدث عن الوجع
حتى نهاية سبتمبر/أيلول 2025، بلغ عدد الأسرى في سجون الاحتلال نحو 11,000 أسير فلسطيني موزعين على أكثر من 27 سجنا ومركز توقيف وتحقيق، بعد أن استحدث الاحتلال معتقلات جديدة لاستيعاب موجات الاعتقال، خصوصًا من قطاع غزة.
ولا تشمل هذه الأعداد ما يقارب 3,500 أسيرا من أبناء القطاع الذين اعتُقلوا خلال الحرب، وتُحتجز غالبيتهم في معسكرات تابعة لجيش الاحتلال دون اعتراف رسمي بوضعهم القانوني.
أما التوزيع القانوني للأسرى فجاء على النحو التالي:
- 3,200 أسير محكوم.
- 3,650 أسير إداري.
- 4,100 موقوف.
- 380 أسيرًا محكومًا بالسجن المؤبد (فعليًا أو متوقع الحكم عليهم بالمؤبد)، وهم المتبقون بعد صفقة "طوفان الأحرار".
- 2,800 من معتقلي غزة صنفوا كمقاتلين "غير شرعيين".
ويبلغ عدد الأسيرات داخل السجون الإسرائيلية 51 أسيرة، من بينهن أسيرتان من غزة: سهام أبو سالم (66 عاما) وميرفت سرحان.
كما توجد 27 أسيرة موقوفة، و11 أسيرة إدارية، وقاصرتان هما سالي صدقة وهناء حماد.
ومن بين الأسيرات المريضات، الأسيرة فداء عساف المصابة بالسرطان.
ورغم الحمل والاعتقال، وضعت الأسيرة تهاني أبو سِمحان مولودها "يحيى" داخل سجن الدامون، ليصبح أصغر أسير فلسطيني في التاريخ.
أما من الداخل الفلسطيني، فما تزال الأسيرتان شاتيلا أبو عيادة وآية الخطيب خلف القضبان منذ ما قبل الحرب، بعدما رفض الاحتلال الإفراج عنهما في صفقات التبادل الأخيرة.
ولا تتوفر تقديرات دقيقة لأعداد النساء المعتقلات من قطاع غزة خلال الحرب، نتيجة احتجاز الكثير منهن في معسكرات عسكرية غير معلنة.
فيما يبلغ عدد الأطفال الأسرى نحو 450 طفلًا دون الثامنة عشرة، بينهم 240 محكومين، و100 رهن الاعتقال الإداري، والباقون موقوفون بانتظار المحاكمة.
أما المرضى، فيقدّر عددهم بـ 2,650 أسيرًا مريضًا، منهم 260 مصابون بأمراض خطيرة، و27 يعانون من أورام سرطانية، و21 معاقًا حركيًا ونفسيًا، و3 مصابين بالشلل النصفي يتنقلون على كراسٍ متحركة.
الإهمال الطبي... القتل البطيء
تصف المؤسسات الحقوقية واقع الأسرى المرضى بأنه "إعدام بطيء تحت إشراف رسمي".
الإهمال الطبي أصبح سياسة ممنهجة تقوم على حرمان المرضى من الدواء والعلاج حتى الموت.
وهناك 112 أسيرا استشهدوا نتيجة الإهمال الطبي من ضمن 314 شهيدًا منذ عام 1967، فيما يواجه اليوم العشرات من الأسرى المرضى مصيرا مشابها في ظل منع الدواء وإغلاق العيادات الداخلية.
من بين الحالات التي رصدها مكتب، إعلام الأسرى الأسير فواز بعارة من نابلس، الذي يعاني من ورم سرطاني وفقدان تدريجي للبصر وضعف في عضلة القلب، لكنه لا يتلقى سوى المسكنات.
أما الأسير محمود عبد الله (49 عامًا) من مخيم جنين، اعتُقل بتاريخ 24/1/2025 بعد محاولته مساعدة سيدة وأم لشهيدين. تنقل بين سجون مجدو وجلبوع قبل نقله إلى الرملة. يعاني من سرطان الكبد، قرحة واضطرابات في المعدة، واضطرابات نفسية مزمنة، ويُحرم من أدويته، بينما تُؤجل محاكمه باستمرار وسط حرمانٍ تام من العلاج الكيميائي، ما جعله يعيش أيامه في السجن ببطء مؤلم.
وكذلك الأسير أحمد زلوم (43 عامًا) من نابلس، معتقل إداريًا منذ 25/7/2025 بعد أن قضى 22 عامًا في السجون سابقًا. يعاني من آثار إصابات قديمة وشظايا في رقبته ويديه وظهره، ولا يتلقى العلاج الكافي. اعتقاله الإداري لمدة 5 أشهر حال دون إكمال رحلة علاجه بعد حريته، وسط غياب زيارات المحامين ومعلومات دقيقة عن وضعه الصحي.
إنها مشاهد موت مؤجلة، تُنفَّذ ببطء وبقانون الاحتلال. لا يعدم الأسير برصاصة، إنما بحرمانه من الدواء، وبإهمال متعمد يبقيه معلقا بين الحياة والموت.
بدوه، أكد مركز فلسطين لدراسات الأسرى أن الاحتلال يحتجز 22 أسيرًا مريضًا في عيادة سجن الرملة في ظروف قاسية ودون تقديم أدنى مستويات الرعاية الصحية، ما يجعلهم "شهداء مع وقف التنفيذ". الإهمال الطبي، الذي يُعد السبب الثاني بعد التعذيب في وفاة الأسرى، يفاقم الأمراض المزمنة ويحول الشفاء إلى شبه مستحيل، فيما يُماطل الاحتلال في نقل المرضى للمستشفيات المدنية ويقدم لهم طعامًا غير مناسب، وسط أوضاع معيشية متدهورة.
شهداء السجون... الموت تحت التعذيب
منذ عام 1967، استُشهد 314 أسيرًا فلسطينيًا داخل سجون الاحتلال، من بينهم 77 أسيرًا منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023.
توزعت أسباب استشهادهم على النحو التالي:
- 116 تحت التعذيب المباشر.
- 112 نتيجة الإهمال الطبي.
- 79 أُعدموا بعد الاعتقال مباشرة.
- 7 استُشهدوا بعد إصابتهم بالرصاص داخل السجون.
ولا يزال الاحتلال يحتجز جثامين 85 أسيرًا شهيدًا، بينهم 74 منذ بدء حرب الإبادة، إضافة إلى عشرات من شهداء غزة الذين لم يُكشف عن أسمائهم أو أماكن احتجازهم حتى الآن.
الإخفاء القسري: جريمة مزدوجة ضد الحياة والكرامة
الإخفاء القسري يعد من أخطر الانتهاكات التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، إذ يختفي الأسرى خلف أبواب مغلقة بلا أي سجل رسمي أو إشعار لعائلاتهم، في انتهاك صارخ للمواثيق الدولية وخصوصًا المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تحظر الاعتقال التعسفي وتحمي حق الفرد في معرفة مكانه والوصول إلى محاكمة عادلة.
الاحتلال يطبق هذا الإجراء بشكل منهجي على معتقلي غزة، خصوصا الذين صنفهم كمقاتلين غير شرعيين، حيث يحتجز المئات في معسكرات سرية مثل منشة، نفتالي، وعناتوت، وسجن تحت الأرض في الرملة " راكيفت" ، سديه تيمان، بلا أي تواصل مع العالم الخارجي، ولا يُسمح لعائلاتهم بمعرفة مكانهم أو حالتهم الصحية.
وهنا يؤكد مكتب إعلام الأسؤى أن هذا الإخفاء لا يعطي الأسرى فرصة الدفاع عن أنفسهم، ويزيد من معاناتهم النفسية والجسدية، كما يمثل عقابا مزدوجا للأسرى وعائلاتهم التي تعيش القلق المستمر والخوف على أحبائها بلا أي أخبار أو تأكيدات.
القوانين الدولية بين النصوص المعطلة والانتهاكات الصارخة
تنص اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 على وجوب حماية المدنيين والأسرى أثناء النزاعات المسلحة، بما في ذلك ضمان سلامتهم الجسدية والنفسية، وتوفير الرعاية الصحية الكاملة، والسماح بزيارات دورية من الصليب الأحمر، وضمان ظروف احتجاز آدمية. كما تكفل القوانين الدولية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، حماية حقوق المعتقلين من التعذيب أو المعاملة القاسية أو المهينة، وتفرض على الدول الالتزام بإجراءات محاسبة فاعلة في حال وقوع أي انتهاك.
غير أن الواقع داخل السجون الإسرائيلية يُظهر فجوة صارخة بين النصوص القانونية والتطبيق العملي، حيث تتعمد إدارة السجون حرمان الأسرى الفلسطينيين من الرعاية الصحية الأساسية، وتطبيق العزل الانفرادي الطويل، والتعذيب الجسدي والنفسي، والاعتقال الإداري بلا محاكمة عادلة، وسلب الحريات الأساسية للزوار والمحامين.
مكتب إعلام الأسرى اعتبر كل هذه الممارسات انتهاكاً مباشراً للمواثيق الدولية، بما فيها المادة 3 المشتركة في اتفاقيات جنيف التي تحظر التعذيب والمعاملة اللاإنسانية.
وفق شهادات الأسرى، هناك حالات متكررة لتأخير العلاج الطبي، ومنع إجراء العمليات الجراحية للأسرى المصابين بأمراض مزمنة وسرطانية. إضافة إلى ذلك، يحتجز جثامين شهداء الحركة الأسيرة في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني الذي يفرض تسليم الجثامين للأسر، وهو ما يفاقم الألم النفسي لعائلاتهم ويعتبر استمراراً للعقاب بعد الموت.
منظمة العفو الدولية وهيئة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أكدت أن هذه الممارسات تشكل جرائم حرب وجريمة إبادة صامتة ضد الفلسطينيين داعية المجتمع الدولي إلى فتح تحقيقات مستقلة عاجلة، ومحاسبة المسؤولين الإسرائيليين على الانتهاكات المستمرة. فالصمت الدولي والتغاضي عن هذه الانتهاكات يشجع الاحتلال على الاستمرار في سياساته القمعية ضد الأسرى ويحول السجون إلى مختبرات لمعاقبة الفلسطينيين خارج نطاق القانون ما يضع الإنسانية أمام اختبار صارخ.