لم يكن الأسير يومًا اسمًا دون جذور، فلا تبرد ثارات من نهلوا الكرامة من عائلاتهم، من آبائهم وأمهاتهم، وفي كل قصة أسيرٍ يقف والدان في المنتصف بين آلام السجون والتنكيل، وبين زياراتٍ وأدعيةٍ تودّ لو تكون الحرية قريبةً فيها، وتلهج ألسنة الأسرى في كل مرة حين يزورهم المحامي بأمنياتٍ تسأل أول ما تسأل عن أوضاع والديهم الصحية، وإن كانا لا يزالان على قيد الحياة. في قصة كل أسيرٍ فلسطيني تتلخص هذه الرموز والآلام على رأس معاناتهم.
يواصل مكتب إعلام الأسرى عرض قصص الأسرى أصحاب الأحكام المؤبدة وأخبارهم المتوفرة في ظل غياب زيارات الأهالي، ضمن سلسلةٍ يقدّمها المكتب تهدف إلى تسليط الضوء على ما يتعرضون له من تنكيلٍ وإهمالٍ طبيٍّ وسياسةِ تجويعٍ ممنهجة، بهدف إبقاء صورتهم حاضرةً في أذهان الشعب الفلسطيني، وفي أذهان العالم أجمع.
الأسير إسلام صالح جرار (52 عامًا) من مدينة جنين الأبية، أحد هذه القصص؛ مناضلٌ تعرفه مدينة جنين جيدًا، ويشهد له أبناء الشعب الأحرار. لديه أبٌ أديبٌ تسعينيٌّ غزاه الشيب، يحلم بلقائه كل يوم، ويعيش على أمل أن يراه صورةً حيّةً أمامه. هذا التسعيني الشامخ، الشاعر، نظَمَ من قلب المعاناة ديوانًا أسماه «الأسير»، يعكس صورةً عن اعتقال نجله، وصورةً حيّةً لآلام الأسرى. أكلت مواعيد الزيارة من أقدامه الكثير حين كانت زوجته رجاء جرار ترافقه فيها، وتشهد على ذكريات الانتظار والقهر، قبل أن يتوفّاها الله عام 2016 راضيةً عن ابنها، حالمةً بحريته، ليظلّ والده يلاحق هذا الحلم وحيدًا.
حين انتهت أخبار صفقة طوفان الأحرار، علمت عائلة الأسير إسلام جرار بأن اسمه لم يُدرج، فأرسلت رسائلها راجيةً أن يتغيّر القدر، لكن الحكم ثبت، ولم ينل الأسير إسلام جرار حريته. اليوم تصف شقيقته في حديثها لمكتب إعلام الأسرى تلك الأيام بأنها كانت صعبةً ومحزنة، إذ لا تزال تسع مؤبدات تتبعها سبع سنواتٍ أخرى تطارد شبح حريته في سجن جانوت حتى هذا اليوم.
اعتقل الاحتلال الأسير إسلام جرار بتاريخ 26/8/2002، بعد أربعة أشهرٍ من اجتياح مخيم جنين، في ذات يوم اعتقال الأسير الشيخ جمال أبو الهيجا، حيث تم اعتقالهما من داخل البيت نفسه في المخيم. ولم يكن هذا هو اعتقاله الأول، فقد تعرّض لستة اعتقالاتٍ سابقة، متفرقة بين سجون الاحتلال وسجون السلطة. كان له دورٌ نشِط في انتفاضة الأقصى، وتعرّض للمطاردة مدة أربع سنوات، كما حاول الاحتلال تصفيته قبل أن يتم اعتقاله في نهاية المطاف وإصدار حكمٍ انتقاميٍّ بحقه بعد تحقيقٍ استمر لأشهر، اتهمه الاحتلال بعدها بالمشاركة في عملياتٍ استشهاديةٍ أدّت إلى مقتل عددٍ من المستوطنين، منها عملية صفد الاستشهادية.
أكدت عائلة الأسير إسلام جرار أنه حصد مراكز علمية وشهاداتٍ عدة، فقد حصل على درجة البكالوريوس قبل اعتقاله في تخصص الكمبيوتر فرع الرياضيات من جامعة القدس، وعمل في سلك التعليم مدرسًا مدة عامين. كما حصل على درجة الماجستير في تخصص الدراسات الإسرائيلية من داخل سجون الاحتلال، وكان له الفضل في تعليم العديد من الأسرى دوراتٍ علميةً مختلفة ومتابعة دراستهم الجامعية، إذ يعود له الفضل في تخرّج عددٍ كبيرٍ من الأسرى من جامعاتٍ مختلفة من داخل سجون الاحتلال، فكان المشرف على تعليمهم والمتابع لإنجازاتهم حتى آخر الطريق. وبتاريخ 20/2/2020 أصدر الأسير إسلام جرار كتابه الأول بعنوان «نصر الطيّار»، الذي تناول فيه المسيرة النضالية للشهيد نصر جرار ونجله أحمد جرار، وتحدث عن مخيم جنين ومعاناة الأسرى في سجون الاحتلال.
وأضافت العائلة أن الأسير جرار خسر فرص الحرية مراتٍ عدة، إذ لم يسمح الاحتلال بإدراج اسمه ضمن صفقات الأحرار. وقد عاشت العائلة أملاً كبيرًا في أن ينال حريته هذه المرة، لكن نسائم الحرية ـ كما وصفتها شقيقته ـ تجاوزته مرةً أخرى. وأضافت في رسالةٍ نشرتها أن الحرية لم تعلم أنها تجاوزت أسدًا رابضًا بانتظارها، ليزيح عن كاهله ثِقل أربعةٍ وعشرين عامًا من قسوة السجون.
اليوم يعاني الأسير جرار، كما باقي الأسرى، من سياسة التجويع حتى فقد من وزنه الكثير. وتتابع عائلته أخباره عبر الأسرى المحررين وعبر زيارات المحامين. وقد تمكن المحامي حديثًا من زيارته في سجن جانوت، وأخبرهم أن الأوضاع لا تزال على حالها، وأنه يخرج إلى الفورة مرةً كل أسبوعين لمدة ساعة، ويقضي وقته في حفظ القرآن الكريم وقراءته، والصلاة والدعاء، ويتمنى لو يُسمح له بحلاقةٍ طبيعيةٍ لشعره، لا كما تفعل إدارة السجون إذ تُحلق رؤوس الأسرى بالكامل.
اليوم تعيش عائلة الأسير إسلام جرار ذات صراع عائلات الأسرى: تخوّفاتٍ من ممارسات الاحتلال الانتقامية بحقهم، وانتظارًا يملؤه الألم لتحقيق زيارة المحامي وإرسال رسائل شفويةٍ لابنهم، ومن ثم نقل رسالته إليهم بالطريقة نفسها. كل ما ترجوه عائلة الأسير جرار، كما سائر عائلات الأسرى، أن يعود حقّ الزيارة حتى يتمكنوا من معاينتهم ومعاينة صحتهم بأعينهم لا بأعين المحامين فقط. وحتى ذلك الوقت، تواصل العائلة انتظارها لانتهاء حالة الطوارئ التي فُرضت على كافة السجون في أعقاب حرب الإبادة على قطاع غزة.