عماد نبهان.. الأسير الذي خرج من "التابوت" حيًا
تقرير/ إعلام الأسرى

هل تذكر عزيزي القارئ تلك اللحظة التي كنت فيها داخل مصعد كهربائي وانقطعت عنه الكهرباء؟ هل تذكر حالة الفزع والرعب التي عشتها والتي قد لا تتجاوز في أطول الأوقات ربع ساعة! لكنها بدت آنذاك لك دهرًا كاملاً، ولربما تذكرت حياتك كلها وتوقفت أنفاسك للحظات، أو بدأت بالدق على باب المصعد لعل من في الخارج يسمعك وينقذك!!

قليل من الأشخاص لم يتعرض لهذا الموقف في حياته، والبعض قد يصل به الحال وهو في هذا الموقف للشعور أنه في قبر مغلق، فما بالك لو أنك قضيت ليلة كاملة وليس مجرد ربع ساعة في تابوت مغلق؟، نعم تابوت لا مصعد، هل زادك الفضول لتعرف قصة هذا التابوت؟

عن التعذيب بأسلوب التابوت يتحدث لنا الأسير المحرر الغزي عماد نبهان والذي تحرر في صفقة طوفان الأحرار الثالثة، ويروي لمكتب إعلام الأسرى رحلة أسره التي بدأت بعد شهور قليلة من بداية حرب الإبادة على قطاع غزة التي استمرت قرابة عامين كاملين.

في أواخر ديسمبر 2023 بدأت أولى لحظات رحلة المحرر نبهان في معتقل سديه تيمان، ذلك المعتقل الذي استحدثه جيش الاحتلال في غلاف غزة معسكرًا لتعذيب الأسرى الذين يعتقلهم من جميع أنحاء مدن قطاع غزة، وأمضى فيه قرابة 35 يومًا، في بدايات الجحيم.

بعد ذلك انتقل إلى جولات أكثر صعوبة من التعذيب، حينما تم نقله إلى غرف الموسيقى ما بين 10 إلى 12 يومًا، -غرف الديسكو- وهي غرف تعذيب يتم تشغيل الموسيقى فيها عبر مكبرات صوت بدرجات صوتية عالية جدًا تفوق قدرة البشر على احتمال الاستماع لها لدقائق، فكيف لو عرفت أنها تبقى مستمرة دون توقف على مدار الساعة!!

جلس فيها عماد صباحًا، لم تكن جلسته على كرسي وثير مريح له، إنما جاءت جلسته على كرسي من حديد موصول بالكهرباء، ويبدأ المحقق السؤال، أين السنوار، أين الضيف، أعطنا خريطة الأنفاق، بلغنا عن المقاومين، اعترف على أبناء شعبك، ولنبهان شقيق ارتقى يطلب منه المحقق أن يدلهم أين جثة أخيه، فيرد والدي من دفنه لا أعرف أين هو، فيأخذ نصيبه أضعافًا مضاعفة من الكهرباء، لكنه يسرّ إلى نفسه أنه سيصمد!

عندها تبدأ مرحلة جديدة من التعذيب، يدخل السجان والمحقق في أرجل المعتقلين أسياخ حديدية موصولة بالكهرباء، ويعيدون الأسئلة مرة تلو مرة، وفي كل مرة يعيد عليهم نبهان أنه اعتقل مبكرًا في بدايات الحرب، ولا معلومات لديه، ولن يسلم أي أحد أبناء شعبه، فتزداد حدة التعذيب.

يقول نبهان: "كنت مستعدًا للموت ألف مرة على أن أصبح عميلاً للاحتلال الإسرائيلي"، وأثناء التحقيق الذي يستمر عدة ساعات لو طلب عماد رشفة ماء يمسك المحقق بالزجاجة ويسبكها رويدًا رويدًا في سلة القمامة، ويطلب منه أن يتعامل معه ليشرب ويرتوي، يكررها له لا وألف لا، لن أختم حياتي بالعمالة!، وبعد انتهاء حفلة التعذيب.. يعاود المحقق السؤال، وفي كل ليلة يبقى عماد ثابتًا على نهجه، هنا يأتي دور التابوت ليكون مكان المبيت!

التابوت كما يصفه المحرر عماد هو قفص حديدي أشبه بالتوابيت التي يدفن فيها الموتى، يقضي ليلته فيه ويكون موصولاً بخرطوم صغير يحمل الوجبة الوحيدة اليومية التي يتغذى عليها وهي كمية من مشروب تكاد كميته تكون أقل من ربع كوب من البلاستيك، ويحسبون له أنفاسه في هذا التابوت!

وما بين غرف الديسكو والتابوت قضى نبهان قرابة 10 أيام إلى 12 يومًا، يقضي صباحه في الديسكو وليلته يبيتها في التابوت!!

وبعدها انتقل إلى رحلة من نوع آخر، لمن لا يعرف فلسطين معروفة بمناطقها الخلابة المريحة للنظر، وطبيعتها الساحرة، ومرج ابن عامر، وسواحلها على البحر الأبيض المتوسط، وجبالها العالية الشامخة، وغور الأردن، و..، لحظة قلنا إن رحلته من نوع آخر، رحلة عماد كانت التنقل بين سجون الاحتلال ومعتقلاته، بين النقب وعوفر والرملة ومجدو وسجون الغلاف وحتى غرف العصافير -هي غرف يمثل فيها بعض العملاء أنهم أسرى لدى الاحتلال لنزع الاعترافات بطرق ناعمة من أسرى حقيقيين-!

في رحلته هذه، تعرض لكل أنواع التعذيب المختلفة في السجون، بين جوع ومرض وقهر وظلم، إن طلب تزويد حصته من الطعام جاء الرد أن إدارة السجن تطعم الأسرى ليكونوا قادرين للذهاب إلى التحقيق، وليس المطلوب إشباع الأسرى، فكان يعمد ورفاقه إلى تجميع وجبات الفطور والغداء والعشاء وتناولها قبل النوم لعل وعسى يشعرون بالشبع فيستطيعون النوم ولو قليلاً!

ولا ينسى كيف تفشى مرض السكابيوس الجرب في سجون الاحتلال والذي أدى إلى إصابة الأسرى بالدمامل والتقرحات، ما سبب ارتقاء بعض الأسرى شهداء، ومن تعرض لتلف في أعصابه، أو لعدم القدرة على الحركة، فمن أصعب المواقف التي مرت عليه في سجون الاحتلال أن يصاب بالمرض ولا علاج له.

في آخر مرة من مرات التحقيق، جلس المحقق مع عماد، وقال له: "تبقى فقط والدك ووالدتك على قيد الحياة، ما بدك تشتغل معانا وتطلع تشوفهم وتضلوا كلكم بخير؟"، فكانت إجابته التي أغلقت الباب نهائيًا في وجه العمالة: "والله تقصفهم ويموتوا كلهم شهداء أشرف إلي ألف مرة ولا أني اشتغل معكم واصير عميل"، وكان طيلة مدة أسره يتلقى خبرًا بين حين وآخر عن ارتقاء أفراد من عائلته شهداء.

نجا عماد نبهان من التابوت الحديدي، لكن العشرات ما زالوا هناك، يُدفنون أحياء كل يوم في أقبية التحقيق الإسرائيلية... فمن منقذهم؟

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020