صندوق الموت تحت الأرض معتقل "راكيفت" نموذج الإخفاء والتعذيب في سجون الاحتلال
تقرير/ إعلام الأسرى

تحت طبقات كثيفة من الصمت والإسمنت والحديد وفي عمق الأرض الذي لا تبلغه الشمس، تُخفي إسرائيل صندوقها الأسود الجديد: "راكيفت".

ليس مجرد جناح في سجن ، هو  نسخة من الجحيم وُضعت تحت الأرض، حيث تُدفن الأصوات والأنفاس، وتُسحق الإرادة الإنسانية بين جدرانٍ من الخرسانة الباردة وأجهزة المراقبة الصامتة.

منذ أعقاب السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبعد عملية طوفان الأقصى، فعّلت مصلحة السجون الإسرائيلية واحدًا من أخطر أجنحتها السرية داخل سجن أيالون بمدينة الرملة، لتحتجز فيه أسرى من قطاع غزة ولبنان ممن تصفهم إسرائيل بأنهم من "النخبة المقاتلة"، في ظروفٍ وُصفت حتى داخل الإعلام الإسرائيلي بأنها “غير إنسانية”.

معتقل راكيفت.. السجن الذي لا يرى النور

في يناير/كانون الثاني 2025، كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت لأول مرة عن هذا المعتقل السري الذي أطلقت عليه اسم "راكيفت"، أي الصندوق بالعبرية.

صُمم على هيئة وحدة مغلقة تمامًا تحت الأرض، جُهزت بزنازين ضيقة بلا نوافذ، بلا هواء، بلا ضوء، بلا زمن.

يُحتجز المعتقلون فيه 23 ساعة يوميًا داخل الزنازين، وتُمنح لهم ساعة واحدة فقط للخروج إلى ساحة إسمنتية صغيرة، تمرّ بها خيوط شمس محدودة، ممنوعون خلالها من الحديث مع بعضهم أو رفع رؤوسهم.

على جدران الساحة عُلّقت صور لدمار غزة، كُتب عليها بالعربية: "غزة الجديدة"، في مشهدٍ نفسي متعمّد يراد به كسر الروح قبل الجسد.

تُدار المنشأة بسرية مطلقة.

حتى الحراس داخل الجناح يحملون بطاقات تعريف رقمية فقط دون أسماء حفاظًا على سريتهم، ويُمنع إدخال أي محامٍ أو ممثل حقوقي.

ولا يُسمح لأي معتقل بالخروج من الجناح لأي سبب، فكل ما يحتاج إليه – من استجواب أو فحص طبي أو محكمة – يُنفذ داخل الصندوق ذاته.

في يناير الماضي، زار وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير المعتقل، ونشرت وسائل إعلام إسرائيلية صورًا له وهو يتباهى بالظروف القاسية داخله قائلًا: "ليس سرًا أنني أؤيد عقوبة الإعدام لهؤلاء... هؤلاء الحثالة البشرية لا يجب أن يروا النور، ومكانهم الطبيعي هو تحت الأرض".

كلمات بن غفير كانت توصيف دقيق لما يحدث فعلًا في معتقل "راكيفت"، حيث يُحرم المعتقل من الزمن والنور والصوت، في عزلةٍ مطلقة عن العالم الخارجي.

زيارة ميدانية: أسرى قطاع غزة في جناح ركيفت – سجن الرملة

خلال الأسابيع الأخيرة، جرى تنفيذ زيارة ميدانية لعددٍ من أسرى قطاع غزة المحتجزين داخل قسم ركيفت في سجن نيتسان (الرملة)، كشفت عن أوضاعٍ صحية ومعيشية كارثية تعيد إلى الأذهان أسوأ مراحل التعذيب في تاريخ الاحتلال.

أولًا: شهادة الأسير (ع.م)

اعتُقل الأسير بتاريخ 10 ديسمبر 2023 من مدرسة فلسطين في جباليا، بعد أن تعرض للضرب الشديد أثناء الاعتقال دون أي تحقيق ميداني، حيث نُقل مباشرة إلى بركسات الغلاف (سديه تمان)، ومكث هناك ستة أيام في ما يُعرف بـ“الديسكو”.

تلك الأيام كانت كابوسًا متواصلًا من التحقيق العسكري العنيف الذي استمر أربعة أيام متتالية، تخلله ضرب مبرح على مختلف أنحاء جسده حتى فقد الإحساس بأطرافه وسقط فاقدًا للوعي.

نُقل بعد ذلك إلى مستشفى ميداني داخل البركسات لمدة ثلاثة أيام، ثم إلى مستشفى خارجي ليوم واحد فقط، قبل أن يُعاد إلى سجن عسقلان حيث مكث 35 يومًا، خضع خلالها لثمانية أيام من التحقيق.

وُضع في قسم العصافير، وأُبلغ بوجود “اعترافاتٍ” ضده دون أن يُدلِي بأي اعترافات.

في 25 يناير 2024، نُقل إلى زنازين المسكوبية في القدس حتى 17 أبريل 2024، ثم إلى سجن عوفر – قسم 23 حتى 14 أكتوبر 2024، قبل أن يُعاد إلى سجن الرملة – قسم ركيفت، حيث يحتجز حتى اليوم بتهمة المشاركة في أحداث 7 أكتوبر 2023.

الوضع الصحي والمعيشي للأسير (ع.م):

يعاني من فطريات في المناطق الحساسة، دون أي علاج رغم تقديم شكاوى متكررة.

وزنه الحالي 64 كغم بعد أن كان 75 كغم قبل الاعتقال.

أكد أن إدارة السجن هددتهم قبل الزيارة بعدم الحديث عن أوضاعهم تحت طائلة العقاب بالضرب والحرمان.

تفاصيل الحياة اليومية في القسم:

* الطعام المقدم ضئيل ورديء النوعية، ثلاث وجبات فقط لا تسمن ولا تغني من جوع.

* الفورة نصف ساعة يوميًا فقط، وهم مكبّلو الأيدي للخلف والرأس للأسفل.

* تُسحب الفُرُش من الرابعة فجرًا حتى الحادية عشرة ليلًا.

* الإهانات اللفظية والضرب مستمران في أي لحظة.

* سياسة "تكسير الأصابع" تُمارس كوسيلة تعذيب.

* منع الصلاة الجماعية وأحيانًا الفردية، ولا توجد مصاحف في الغرف.

* الشامبو والمحارم توزع يومًا بعد يوم، ظرف صغير من الشامبو لأربعة أسرى.

* الملابس الداخلية لا تُبدّل إلا نادرًا، ويغسلها الأسرى بأنفسهم.

ثانيًا: شهادة الأسير (إ.ح)

اعتُقل بتاريخ 7 أكتوبر 2023 من منطقة عبسان الشرقية بعد دخوله الأراضي المحتلة، وبقي محتجزًا حتى فجر اليوم التالي قبل نقله إلى سجن عوفر.

خضع هناك لتحقيقٍ استمر من ثلاث إلى أربع ساعات، ثم وُضع في قسم العصافير لمدة أسبوع، قبل أن يُعاد إلى المخابرات حتى 23 نوفمبر 2023، ثم إلى قسم 10 (الزنازين) حتى ما بعد شهر رمضان، ومنه إلى قسم 23 قرابة العام.

في 23 أبريل 2025 نُقل إلى سجن الرملة – قسم ركيفت.

خلال وجوده في عوفر خضع لـ5–6 جلسات تحقيق، وقدم 3 إفادات شرطة أكد فيها أنه اعتقل دون حيازة أي شيء وكان يبحث عن عمل وطعام.

اتهمته سلطات الاحتلال بالاغتصاب والخطف، قبل أن تحوّله إلى الاعتقال الإداري في أكتوبر 2024، وتم تمديده عدة مرات.

وفي مايو 2025، عُقدت له محكمة تم خلالها تمديد اعتقاله الإداري ستة أشهر إضافية حتى نوفمبر 2025، بتهمة الانتماء إلى تنظيم إرهابي وتشكيل خطر على دولة إسرائيل.

الوضع الصحي والمعيشي للأسير (إ.ح):

- يعاني من فطريات في القدمين دون علاج.

- فقد 35 كغم من وزنه (من 95 إلى 60 كغم).

- اشتكى من قلة الطعام وسوء نوعيته، إضافة إلى الضرب والإهانات المستمرة مثل باقي الأسرى في القسم.

ما جرى توثيقه من شهاداتٍ داخل "راكيفت" عبارة عن  ملامح نظام تعذيب ممنهج، يمتد من فوق الأرض إلى تحتها، حيث يُسحق الإنسان الفلسطيني في دوامة من القمع المادي والنفسي، بعيدًا عن عين القانون والعدالة.

إن "راكيفت"  رمز لحقبة جديدة من الإخفاء والتعذيب الإسرائيلي التي أعادت تعريف السجن كأداة للإبادة البطيئة، حيث يتحول الجسد إلى مساحة للعقاب، والزمن إلى سلاح ضد الوعي.

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020