تعيش أجساد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال واقعًا قاسيًا، يتجسد في انتهاكات ممنهجة تشمل الحرمان من الرعاية الطبية لمرضى الأمراض المزمنة، والتعذيب الجسدي والنفسي خلال التحقيق، والعزل الانفرادي لشهور كعقاب على المطالبة بحقوقهم، فلم تقتصر المعاناة على ما قبل 7 أكتوبر 2023، بل تصاعدت خلال العدوان الأخير وما شمله من موجة اعتقالات جماعية طالت أطفالًا ونساءً، حيث وُضع المئات في زنازين مكتظة دون محاكمة، بذريعة "الاعتقال الإداري".
بعد 7 أكتوبر.. انتقام ممنهج
تحوّلت السجون إلى أدوات انتقامية، وفق تقارير حقوقية، حيث تعمّد الاحتلال تقليل الوجبات الغذائية، ومنع الزيارات العائلية، وتعريض المعتقلين الجدد لظروف قاسية، كالحبس في غرف متجمدة. أسرى من غزة كشفوا عن تعرضهم لعقاب جماعي، مثل حرمانهم من النوم أو إجبارهم على شرب ماء مالح، في حين ترفض سلطات الاحتلال الإفراج عن جثامين الشهداء المحتجزة.
ورغم الإفراج عن دفعات ضمن صفقات تبادل، لا يزال نحو 5500 أسير يواجهون سياسة قمعية، بينهم أطفال، ومسنّون، ومرضى بأمراض مستعصية. وتتهم منظمات دولية إسرائيل بممارسة التمييز العنصري في تعاملها مع الأسرى الفلسطينيين، وسط صمت دولي يُطيل أمد هذه المعاناة التي تُكتب فصولها خلف القضبان يوميًا.
لا تتوقف الانتهاكات عند حدود الاكتظاظ، بل تمتد إلى ممارسات تعذيب ممنهجة، تشمل الضرب المبرح، والعزل الانفرادي لشهور، والحرمان من النوم، والتهديد بتعذيب الأهل، في محاولة لانتزاع اعترافات قسرية. ويروي أسرى سابقون كيف يُستخدم "البرد القارس" و"الضرب على باطن القدمين" كأساليب عقاب يومية.
الحقوق الأساسية.. حبر على ورق
رغم اتفاقيات جنيف، يُحرم الأسرى من أبسط حقوقهم، كحق التعليم والتواصل مع العالم الخارجي، حيث ترفض إدارة السجون تزويدهم بالكتب أو السماح لهم بمواصلة الدراسة، كما تُقيّد زيارات الأهالي عبر تعقيد إجراءات التصاريح، ما يزيد من جراح الغياب التي لا تُندمل.
وبينما تتصاعد التقارير الحقوقية التي تدين الانتهاكات الإسرائيلية، لا تزال المنظمات الدولية عاجزة عن إجبار الاحتلال على احترام القانون الدولي، في وقت يواصل فيه الأسرى نضالهم اليومي من أجل البقاء، في معركة تثبت أن القضبان لا تقوى على سحق إرادة التحرير.
وكشفت هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني، مطلع يناير من العام الحالي، عن شهادات جديدة لمعتقلي غزة، بعد زيارات أجريت لـ23 معتقلًا في سجن النقب الصحراوي ومعسكر نفتالي المحاذي لقطاع غزة خلال الأيام القليلة الماضية.
وتضمنت الشهادات تفاصيل صادمة عن عمليات التعذيب الممنهج، والتنكيل، والتجويع، والجرائم الطبية، إلى جانب الضرب المبرح وعمليات القمع، واستمرار تفشي مرض الجرب "السكابيوس" بين الأسرى، نتيجة الإهمال الصحي المتعمد.
كما أفاد التقرير بأن معسكر "سديه تيمان"، الذي شكّل العنوان الأبرز لعمليات التعذيب، لم يعد الموقع الوحيد الذي مورست فيه هذه الفظائع، ومنها اعتداءات جنسية، حيث أظهرت شهادات المعتقلين تعذيبًا ممنهجًا في سجون أخرى، أبرزها "النقب" و"عوفر".
شهادات خطيرة
كشف الأسير المحرر أدهم منصور (45 عامًا)، من جباليا شمال قطاع غزة، عن تفاصيل مروعة بشأن الاعتقال، من بينها تسليط الكلاب للاعتداء جنسيًا على أسرى فلسطينيين.
وأشار منصور، الذي أسرته إسرائيل في 22 ديسمبر 2023، إلى أن الأسرى تعرضوا للضرب، والإهانة، وسوء المعاملة، إضافة إلى نقص الطعام وتفشي الأمراض الجلدية دون علاج.
وقال: "تعرضنا للضرب والإهانة وهجوم الكلاب، وهناك أسرى تعرضوا للاغتصاب من الكلاب"، مضيفًا: "كان وزني 80 كيلوغرامًا، لكن بعد فترة السجن وصل إلى 55 كيلوغرامًا".
وأكد أن المعتقلين يعانون من أمراض متعددة دون أي علاجات طبية متاحة، وسط اكتظاظ شديد يزيد من معاناتهم.
وفي 29 يوليو 2024، تم إيقاف 10 جنود احتياط عملوا حراسًا في معسكر "سديه تيمان" بتهمة الاعتداء على أسير فلسطيني، بما في ذلك الاعتداء الجنسي، ما أدى إلى إصابته بجروح خطيرة.
وفي اليوم التالي، كشفت صحيفة "هآرتس" العبرية أن الأسير الفلسطيني المعتدى عليه يعاني من تمزق خطير في الأمعاء نتيجة التعذيب الوحشي.
أما الأسير المحرر أيوب أبو كريم، من مخيم المغازي، فقد كشف أنه سيفقد يديه بسبب التعذيب، حيث تعمد السجان شد القيد عليهما بعنف، في حين شهدت الأيام الأخيرة من اعتقاله حرمانًا من الطعام لثلاثة أيام، ومصادرة الملابس، والضرب الوحشي الذي أدى إلى كسور في الأضلاع وكدمات في الرأس والبطن.
ويؤكد الأسير المحرر محمد مرتجى، المعتقل منذ 2017 من غزة، أن الاحتلال صعّد تعذيبه للأسرى منذ بدء الحرب، وارتكب جرائم مروعة بحقهم، أدت إلى قتل العشرات تحت التعذيب.
أما الأسير المحرر أحمد ورش أغا، المعتقل بعد 7 أكتوبر 2023 من خان يونس، فقد وصف السجون الإسرائيلية بأنها "غوانتانامو آخر"، بسبب سياسات التعذيب والتجويع الممنهج التي تعرض لها الأسرى.
وقال عقب الإفراج عنه: "اعتقلتنا وحدة إسرائيلية خاصة عن طريق البحر، وتم اقتيادنا إلى مراكز التحقيق، حيث تعرضنا للتعذيب الجسدي والنفسي، والإهمال الطبي المتعمد".
ووصف الأسير المحرر شادي فخري البرغوثي، الذي أمضى 45 عاماً في السجن، ظروف الاعتقال بأنها "قاسية للغاية"، حيث كان الاحتلال الإسرائيلي "يتفنن في تعذيب الأسرى، ويحرمهم من الطعام والدواء، ويمارس بحقهم إهانات متكررة، فضلاً عن اقتحام غرفهم ومصادرة ممتلكاتهم الشخصية".
وكشف شادي عن أنه فقد نحو 35 كيلوغراماً من وزنه بسبب سياسة التجويع التي اتبعها الاحتلال بحق الأسرى، مؤكداً أنهم مُنعوا من ممارسة شعائرهم الدينية، بما في ذلك الصلاة وصلاة الجمعة.
وأضاف أن قوات الاحتلال "نكّلت بهم قبل لحظات من الإفراج عنهم"، مشيراً إلى أن هذه الممارسات القمعية لا تزال مستمرة بحق الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، حيث توجد حالات مرضية مستعصية بينهم.
ووصف شادي ما يجري في سجون الاحتلال بأنه "موت بطيء"، داعياً إلى تسليط الضوء على معاناة الأسرى الفلسطينيين
"الاحتلال يعاقب بالجوع".. سياسة عقابية مستمرة
رغم الإفراج عن 1737 أسيرًا، لا تزال تقارير حقوقية تحذر من استمرار السياسات القمعية ضد 5500 أسير فلسطيني، بينهم 200 طفل و56 امرأة.
وفي فبراير 2024، نشرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" تقريرًا يتهم إسرائيل بممارسة "التعذيب المنهجي"، مشيرة إلى زيادة معدلات الحرمان من الأدوية بنسبة 70% بعد 7 أكتوبر.
وأكد مكتب إعلام الأسرى أن الاحتلال صعّد أساليب القمع والتنكيل، حيث بات التعذيب أكثر وحشية، إلى جانب جرائم التجويع الممنهجة، وانتشار الأمراض الجلدية بسبب الإهمال الصحي المتعمد.
وفي ظل هذا الواقع، حذرت حركة حماس من استمرار عمليات التعذيب والقمع والتنكيل بالأسرى، مؤكدة أنها لن تدخر جهدًا في تحريرهم رغم أنف الاحتلال، داعية المؤسسات الحقوقية إلى التحرك الفوري لإنهاء معاناتهم.