ياسمين… تُنتزع من حضن أولادها للمرة الثالثة

مكتب اعلام الأسرى

كان الليل قد دخل منتصفه، حين تسللت أقدام الاحتلال إلى بلدة الجلمة شرق جنين. لم تكن الطرقات نائمة تمامًا، بل كانت تتهيأ لما يشبه الكابوس. في ذلك الوقت، كان أولاد ياسمين الأربعة يحلمون ربما بأنها بجانبهم، أو تعدّ الفطور كعادتها. لم يعرفوا أن فجرهم سيبدأ بنقص.


"حوّطوا الحارة والدار، واقتحموا البيت بهمجية، وخطفوني من بين ولادي"... هذا ما قالته. لا وصف آخر يليق بلحظة كهذه. فالاحتلال لا يدق الأبواب، بل يقتلع الأمهات من فراش أولادهن كما تقتلع الجدران.


ياسمين تيسير عبد الرحمن شعبان، مواليد 1983، ليست غريبة عن هذا الطريق. سلكته من قبل، وعرفت أسماء الزنازين، وألوان الجدران الباهتة، وموعد الإغلاق الصارم للأبواب.

خمس سنوات من عمرها قضتها في الاعتقال الأول منذ عام 2014، ثم خرجت عام 2019 تحمل في داخلها نية الحياة من جديد. لكنّ الاحتلال أعادها إلى الزنزانة في 2022، وأصدر بحقها حكمًا بالسجن ست سنوات. لم تُكمل المدة، خرجت ضمن صفقة تبادل في تشرين الثاني 2023، تنفست الحرية قليلًا، لكنها كانت مؤقتة كاستراحة مقاتلة.


مرت شهور قليلة، ثم عاد الليل مجددًا... بنفس الحقد، بنفس الخطى الثقيلة، وأعادها إلى حيث لا يجب أن تُسجن الأمهات.

دون تهمة، دون محاكمة، اعتقال إداري جديد، بملف سري لا يعرفه أحد، ولا يُفتح إلا عند الحاجة إلى إطالة وجعٍ ما.


في سجن الدامون، كانت تسير وهي مقيدة. لم تشكُ من القيد، لكنها تحدثت عن اختناق الغرف، عن الزنازين التي لا تعرف الهواء، عن الشبابيك المغلقة طوال الوقت، عن الحشرات التي تقاسم الأسيرات المكان والفرش.

تحدثت عن القمع، حين اقتحموا الغرف مع الكلاب، شتموا، سحبوا، وداهموا النساء في أدق خصوصيتهن. لا وقت للاستحمام بكرامة، ولا لباس يليق بامرأة تريد أن تحافظ على ما تبقّى من جسدها بعيدًا عن عين السجّان.


لا شيء فيها كان يطلب الشفقة. كل ما أرادته من الكلام، أن يُفهم. أن يعرف العالم أن في السجون نساء، وأنهن يُربّين أنفسهن كل يوم على الصبر أكثر من الأمس، وأن كل تفصيل صغير يُصبح مأساة حين لا يُسمح لهن حتى بتبديل ملابسهن إلا بعد غسلها وانتظارها حتى تجف.


ياسمين لم تتحدث كثيرًا عن نفسها، بقدر ما حملت وجع الأخريات.

القلق يأكلها على القاصرات، على الحوامل، على الأسيرات المريضات اللواتي لا يسمع أنينهن أحد.

وحين عاد الحديث إليها، لم تتحدث عن ملف ولا حكم ولا مدة. قالت فقط إن هذه الحبسة، على قصرها، أقسى من كل سنواتها السابقة.

ربما لأن الوجع حين يتكرر، لا يُصبح مألوفًا… بل أكثر قسوة.


ثم جاء ذكر أولادها: مصطفى، أحمد، عبد الرحمن، وإبراهيم.

تغيرت نبرة الكلام، كأن القلب تراجع خطوتين، ليُعيد ترتيب الجرح.

ثلاث مرات تُنتزع الأم من بين أبنائها، ثلاث مرات يعود البيت إلى الصمت، ثلاث مرات تُغلق الأبواب في وجه الحنين. لا لأنها ارتكبت ذنبًا، بل لأنها امرأة تعرف طريقها جيدًا، وتُحب أبناءها أكثر مما تحتمل جدران الاحتلال.


في اسم ياسمين، تختصر حكاية أعمق تتضمن أن خلف كل زنزانة في سجون الاحتلال، تقبع أمٌ، وأن الأم حين تُسجن، لا تسجن وحدها.

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020