محاكمة الصوت الحر: كمال الخطيب بين الكلمة والقيد

مكتب إعلام الأسرى

"هذه الإدانة بالنسبة لي شرف، والمسجد الأقصى المبارك حق خالص لنا ولا مساومة عليه. لن تكسر إرادتنا هذه الاتهامات، وأنا أوقفت نفسي ومُلكًا لأبناء شعبي، ولن نتنازل عن أي من ثوابتنا..."

هكذا افتتح الشيخ كمال الخطيب كلمته الأخيرة في المحكمة، بعد جلسة نُطْق الحكم بإدانته بتهم "التحريض على العنف والإرهاب". لم يتراجع، لم يخف، لم يتحدث بلغة دفاعية. بل وقف كما عُرف طوال حياته، يواجه القضاء الإسرائيلي كما واجه من قبل سياسة الاحتلال، بخطاب واضح، ثابت، لا يُساوم. وبينما كانت قاعة المحكمة توحي بمشهد قانوني، كان صوته يعيد القضية إلى أصلها: صراع على الكلمة، على العقيدة، على الأقصى، وعلى البقاء في وجه نظام لا يريد أن يسمع سوى صدى قمعه.

منذ أن انفتح وعيه على الأقصى، لم يكن الشيخ كمال الخطيب، المولود في 25 أغسطس 1962 في قرية العزير قرب كفر كنا، بحاجة إلى خطابات ليُعلن موقفه. كان وجهه يكفي. نبرة صوته في خطب الجمعة، حركته بين الناس، يده المرفوعة بلا تردد فهو رجل لم يؤمن بأن الوقوف مع القدس موقف سياسي، بل فرض ديني وأخلاقي لا يقبل المقايضة.

الشيخ الذي عاش ستة عقود في أم الفحم، لم يكن ناطقًا باسم أحد، بل صوتًا يشبه ما سُرِق من فلسطين. في سنوات ما بعد أوسلو، حين بدأ الداخل الفلسطيني يُجرد من ملامحه، كان هو وأمثاله من أواخر الحراس. يقف، يصرخ، يكتب، يتّهم، ويُتّهم. يعتقل، ويعود أكثر قوة. لم يراهن يومًا على لعبة المؤسسات، ولم ينتظر اعترافًا من سلطة لم تعترف بوجوده أصلًا.

عندما اعتُقل الشيخ كمال الخطيب من منزله في مايو 2021، وجد نفسه في مواجهة محكمة الصلح في الناصرة بتهم التحريض على العنف والإرهاب، بناءا على منشورين كان قد شاركهم على حسابه في منصة فيس بوك وخطبة خلال "هبة الكرامة" عام 2021،وبحسب ما أورده مركز "عدالة"، فقد زعمت النيابة العامة الإسرائيلية أن منشورات الشيخ كمال الخطيب تُشكّل دعمًا لمنظمات مصنفة كـ"إرهابية"، وتحريضًا على العنف، خاصة في ظل التوترات الأمنية التي شهدتها البلاد آنذاك. وادّعت النيابة أن تصريحاته قد تُسهم في تأجيج الأوضاع وتحريض الجمهور ضد الدولة وأجهزتها الأمنية، مطالبةً بإبقائه رهن الاعتقال حتى انتهاء الإجراءات القانونية. في المقابل، قدّم طاقم الدفاع المشترك من مركز "عدالة" ومؤسسة "ميزان" استئنافًا للمحكمة المركزية ضد قرار الاعتقال.

وبعد نحو شهر من اعتقاله، قررت المحكمة بتاريخ 20 حزيران/يونيو 2021 إلغاء أمر التوقيف، وأفرجت عنه بشروط مقيّدة، تضمنت منعه من الخطابة والمشاركة في التجمعات العامة واستخدام الإنترنت لمدة 90 يومًا، إلى جانب فرض كفالة مالية والإبعاد عن بلدته لمدة 45 يومًا.

ثماني جلسات امتدت أربعة أعوام، شهدت دفاعًا قانونيًا متينًا، تم خلاله الاستناد إلى تقارير وشهادات خبراء أكّدوا أن ما قاله الشيخ يندرج ضمن حرية التعبير المشروع، ولا يرقى إلى مستوى الجريمة. رغم ذلك، أصدرت المحكمة حكمها في 30 يونيو 2025 بإدانته واستئناف محاكمته. عقب الجلسة، قال الشيخ:

"التاريخ سيكتب أن المحاكم الإسرائيلية تحاكم القرآن الكريم والسنة النبوية واللغة العربية والفلكلور الفلسطيني. نحن لا نتعامل مع ثوابتنا بتعامل مزاجي، إذ أننا أصحاب انتماء، وعلى ذلك وُلدنا وسنموت."

وتابع:" وعليه فإنني أقول كما قال الشاعر:

تالله ما الدعوات تهزم بالأذى***أبدًا وفى التاريخ برّ يميني

ضع في يدي القيد ألهب أضلعي***بالسوط ضع عنقي على السكين

لن تستطيع حصار فكريَ ساعة ***أو نزع إيماني ونور يقيني

فالنور في قلبي وقلبي في*** يدي ربي وربي ناصري ومعيني

سأعيش معتصمًا بحبل عقيدتي * وأموت مبتسمًا ليحيا ديني

لم يكن الشيخ يلقي قصيدة. كان يتحدث كما لو أن قاعة المحكمة منصة دعوة، وكأن السجّان هو المتهم، وكأن الأصفاد لا تصلح إلا دليلًا على أن الرسالة وصلت. فهو وحده الذي لا ينتظر البراءة، ولا يخاف الإدانة.

وفي مرافعة النيابة طوال السنوات الماضية، لم يكن هناك جديد. فقط كلمات مثل "تحريض"، "دعم للإرهاب"، "خطر على أمن الدولة". لكن من يعرف الشيخ كمال يعرف أن الخطر في نظرهم ليس ما قاله، بل أنه لا يزال يقول. أن ظلّه الثقيل حاضر في كل وقفة، وأن اسمه يحرّض الأطفال على رفع رؤوسهم، فالشيخ كمال ابن عائلة فلاّحة، درس في كلية ترسانتا في الناصرة، حيث ارتوى من ثقافة التثبت بالأرض والأصل، وواصل معركة الثقافة والساحة، دون مساومة، حتى بعد حظر الحركة الإسلامية الشمالية عام 2015، وشكلت محاكمته طوال الفترة الممتدة ما بين عامي 2021 و2025، بما رافقها من تمديد وتصعيد، تهديدًا مباشرًا للخطاب الوطني والديني في الداخل الفلسطيني، لكن مردودها الإنساني كان معاكسًا: الشيخ الذي يوصف اليوم بأنه "رمز لا يصمت"، لم يكتف بالدفاع عن نفسه، بل أطلق خطابًا جماهيريًا خلف القضبان، مؤكدًا أن المسجد الأقصى حق، وأن الكلمة الحرة لا تُؤخذ بحكم إسرائيلي.

كمال الخطيب، الذي ظل ثابتًا على ذات الخط منذ أكثر من ثلاثين عامًا، لم تغيّره تقلبات المرحلة، ولم تُطفئه حملات التحريض أو الاعتقال. لم يصمت، ولم يتراجع، ولهذا يُحاصر ويُدان.

ففي محاكم الاحتلال، لا تُطلب العدالة، إذ لا يُرجى إنصافٌ من سلطة تدير قضاءها كما تدير جرافاتها وسجونها. من يدفن الأحياء بلا تهمة، لا يتردّد في محاكمة رجل على كلمة. ومع ذلك، ما يُقلقهم ليس ما يقوله الشيخ كمال، بل كيف يقف. كل أسير فلسطيني، في حضرة المحكمة، لا يبدو مدانًا، بل واقفًا على منصة كرامة أمام شعبه.

وهذا ما يعجز الاحتلال عن فهمه: أن من يختار طريق النضال، يعرف الثمن مسبقًا، ويقبله عن وعي. وأن أعظم ما يمكن أن يُقدّمه الفلسطيني، هو أن يكون شاهدًا حيًّا في سجل هذا الكفاح الطويل.

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020