لم تعد السجون مجرد أماكن احتجاز، لقد تحولت إلى فضاءات مغلقة للاختناق البطيء، حيث تختبر إنسانية الإنسان كل يوم، وتصادر أحلامه تحت طائلة القوة والعزل والحرمان.
في تقريرٍ حديثٍ لمكتب إعلام الأسرى، تكشفت صورة قاتمة لواقعٍ اعتقالي يتسع ويشتد في ظل حملات مداهمة يومية واقتحامات ليلية تطال المدن والمخيمات الفلسطينية، وترافقها انتهاكات جسيمة تبدأ من عتبات المنازل ولا تنتهي عند أبواب السجون.
لم يكن الاعتقال فعلا قانونيا، وإنما مشهدا عنيفا مركبا:
تفتيش همجي، تكسير لمحتويات البيوت، سرقات علنية أمام أعين العائلة، واعتداءات جسدية تترك آثارها على الأجساد والذاكرة معا.
أولا: المؤبد… حكم يتكاثر كالعقاب
لا يزال في سجون الاحتلال 115 أسيرا محكومين بالسجن المؤبد من مختلف المحافظات الفلسطينية، في ظاهرة تُجسّد نهج العقوبة المفتوحة بلا أفق زمني.
يتصدرهم الأسير عبد الله غالب البرغوثي، المحكوم بـ 67 مؤبدًا، يليه الأسير إبراهيم جميل حامد بـ 57 مؤبدًا، في أحكامٍ تفوق عمر الإنسان نفسه.
أما أقدم الأسرى المعتقلين منذ عام 1988، فهما:
محمود سالم أبو حربيش و جمعة إبراهيم آدم، اللذان تجاوزا عمر الأسر ما يعيشه الإنسان خارج القضبان.
هذه الأحكام إعلان يومي عن نفي الوجود، وتجميد للحياة في قفص طويل الأمد.
ثانيًا: على حافة المؤبد… جدارٌ يقترب
يتوقع صدور أحكام مؤبدة بحق 36 أسيرًا جرى اعتقال آخرهم في 26/12/2024، في مؤشر على تسارع سياسة الأحكام القاسية بوصفها أداةً للانتقام لا للعدالة.
ينتمي هؤلاء الأسرى إلى محافظات متعددة:
رام الله، جنين، نابلس، طولكرم، القدس، الخليل، قلقيلية، والداخل المحتل، ما يعكس شمولية الاستهداف وتوسعه الجغرافي.
ثالثًا: أحكامٌ ثقيلة وانتظارٌ بلا عدالة
يقبع 20 أسيرًا في زنزانات الانتظار، بانتظار أحكامٍ قد تتجاوز عشرات السنين، أقدمهم معتقل منذ عام 2019، فيما يبلغ عدد الأسرى الذين يقضون أحكامًا تتجاوز 10 سنوات – مع المؤبدات – 426 أسيرًا.
ومن بينهن، الأسيرة شاتيلا أبو عيادة، المحكومة بالسجن 16 عامًا منذ 2016.
رابعًا: الطفولة خلف القضبان
الأكثر قسوة في المشهد أن 275 طفلا فلسطينيا يقبعون في السجون حتى أيلول/سبتمبر 2025، بعضهم لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره.
وسجلت القدس أعلى معدلات اعتقال الأطفال، إذ اعتُقل خلال عام 2023 وحده 1085 طفلًدا، منهم 696 طفلا مقدسيا.
أطفال كان ينبغي أن يحملوا حقائب المدرسة، لا ملفات تحقيق، وأن يحلموا بالمستقبل لا بالقيد.
بين هؤلاء أطفال موقوفون، وآخرون محكومون، إضافة إلى أسيرات قاصرات، في خرقٍ فاضح لكافة الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الطفل.
خامسًا: الاعتقال الإداري… السجن بلا تهمة
بلغ عدد المعتقلين الإداريين حتى 28/10/2025 نحو 3718 أسيرًا، محتجزين دون لوائح اتهام أو محاكمات عادلة.
بل إن بعضهم أنهى محكوميته ليُحوَّل فورًا إلى الاعتقال الإداري، في إجراءٍ يعكس التحايل على القانون واستخدامه كغطاء للقمع.
وسُجّل عام 2024 كأعلى الأعوام من حيث الاعتقال الإداري، بعد تحويل 1522 أسيرًا إلى هذا النمط التعسفي من الاحتجاز.
إن هذه الأرقام عبارة عن مشروع قمع ممنهج يستهدف الإنسان الفلسطيني في كل مراحله العمرية والاجتماعية.
الأطفال، النساء، كبار السن، المرضى… جميعهم في دائرة الاستهداف.
والأخطر أن هذا الواقع يمضي في صمت دولي مريب وسط غياب أية مساءلة قانونية حقيقية لإسرائيل عن جرائمها داخل منظومة السجون.
مكتب إعلام الأسرى يؤكد إن استمرار هذه السياسات يعد انتهاكا صارخا للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، واستهدافا مباشرا للكرامة الإنسانية.