يُعرف بعض الأسرى بأحكامهم وسنوات اعتقالهم، وبعضهم يُعرف بسجله النضالي، وآخرون بحجم التنكيل الذي تعرضوا له في سجون الاحتلال على مدار سنوات. ويُعرف بعض الأسرى بأسمائهم التي تنال حريتها ليعود الاحتلال ويعتقلها من جديد، بينما يُعرف آخرون بأمهاتهم اللواتي أفنين سنواتٍ من أعمارهن في الاعتصامات التضامنية والوقفات المنظمة لأجل حقوقهم، بأسمائهم التي تعلو رؤوسهن في كل مرة يشاركن فيها بصرخاتهن رفقة أهالي الأسرى، حتى يصبح الحلم حقيقة ويعود الابن الغائب إلى بيته حرّاً ومتشفياً من آلام السجون.
أم صالح، تعرفها الخيمات التضامنية ويحفظها دوار الشهداء في نابلس غيباً. لا يكاد يغيب طيفها عن أي وقفة تضامنية. بيضاء الجبهة، تجاعيد الانتظار بادية على وجهها. ملّ كثيرون من طرق أبواب الصمت، لكنها في كل مرة تخرج حاملة صورة ابنها، تقتحم الميدان وتصرخ من أجل حريته. تمضي أيامها باكية، لا يغادر ابنها ذاكرتها التي شهدت من السنين العجاف الكثير. والدة الأسير المؤبد صالح قِنّة صالح منصور (44 عاماً)، من سكان كفر قليل قضاء نابلس، مثالٌ لصبرٍ كابد الانتظار حتى انتصر عليه.
مكتب إعلام الأسرى يواصل تقديم قصص الأسرى المحكومين بالمؤبدات ممن طال انتظار أهلهم، ضمن سلسلة تتناول أخبارهم الاعتقالية والصحية، وإنجازاتهم داخل السجون، ومعاناتهم بعد حرب الإبادة على قطاع غزة.
تقول شقيقة الأسير صالح منصور: "منذ حرب السابع من أكتوبر لا نعرف عن صالح شيئاً، ففي بداية الحرب تحديداً زاره محامٍ من نادي الأسير، وبعد ذلك انقطعت أخباره تماماً. اليوم نستأنس بحديث الأسرى الذين ينالون حريتهم من قسمه في سجن نفحة، ونصارع الوقت والعبرات في انتظار أي خبرٍ يطمئن قلوبنا عليه".
في كل مرة تبذل العائلة جهدها من أجل توكيل محامٍ لزيارة صالح، تتذرع إدارة السجون بمسوغات متعددة: المنع، وأحياناً الحجْر الصحي، فتضع عراقيل أمام زيارته. وفي ظل انقطاع زيارات الأهالي، يشتعل قلب والدته جمراً عليه منذ عامين، وهما من أقسى سنوات الاعتقال التي مرّت على العائلة.
بتاريخ 22/11/2002 اعتُقل الأسير صالح منصور وكان عمره آنذاك 21 عاماً. تقول والدته: "اليوم أصبح بعمر الـ44. ابني ضحّى بأجمل سنوات عمره في السجون، يرفض فكرة أن أخطب له فتاةً ترافقه مشواره وتُسعده، يقول دائماً: لا ذنب لفتاة أن ترتبط بأسيرٍ محكوم بالمؤبد لا يعرف متى سينال حريته، وإن كان سيخرج أم لا".
صالح منصور إنسانٌ مطمئن القلب، كان مثال الشاب الذي ضحّى وناضل في سبيل بلاده. خرج لمقارعة الاحتلال وشارك في الدفاع عن أرضه، وتعرض مع آخرين لشظايا حين أُطلقت قنابل باتجاههم، وبقيت الشظايا في جسده حتى اليوم. لم يستطع الأطباء إزالة معظمها لوجودها في أماكن حساسة قد يؤثر إخراجها عليه، فأخبروا عائلته بأنه يستطيع التعايش معها ومع آلامها.
في الحر والبرد القاسيين داخل السجون يئن صالح من أثر الشظايا، تذكره بسنوات النضال، ولا تعلم العائلة أخباره الأخيرة وآلامه منذ حرب السابع من أكتوبر، لكنها تدرك ما كان يصيبه قبلها من آلام تشتد في الحر الشديد كما في البرد القارس.
لم يتوقف الأسير صالح منصور عند حدود الاعتقال؛ فقد شارك في إضرابات الأسرى وإضراب الكرامة، وحصد مع رفاقه إنجازات للحركة الأسيرة ساهمت في تحسين حياة الأسرى، وهي إنجازات سُحب الكثير منها في أعقاب حرب الإبادة على غزة. تقول شقيقته: "تقدّم صالح لامتحانات الثانوية العامة في السجن ونجح فيها، وحصل على درجتي بكالوريوس وماجستير في العلوم السياسية، كما أتقن اللغة العبرية والفرنسية. وهو قارئ نهم يلتهم الكتب التهاماً، يمضي وقته في القراءة والتعلم، وكانت العائلة ترسل له الكثير من الكتب".
عائلة الأسير صالح منصور تعرّضت كغيرها للتنكيل؛ فقد اعتُقل شقيقه محمد ومكث سنتين في سجون الاحتلال، وكذلك شقيقه محمود الذي أمضى ثلاث سنوات قبل تحرره. وخلال هذه السنوات تمكن صالح من اللقاء بهما في سجن واحد، فحظي بشيء من حياته برفقتهما.
يواجه الأسير صالح منصور حكماً بالسجن المؤبد المكرر مرتين إضافة إلى 25 عاماً. أفنت والدته جلّ عمرها تبكي عليه، تصفه بالحنون، وأكبر أبنائها. تقول: "في كل مرة أسأل أسيراً محرراً عن أخباره يقول لي هو بخير، فأضطر أن أستحلفه ليخبرني بتفاصيل أكثر. وفي كل مرة نسمع من صالح أنه القلق علينا، وأنه يودّ لو يعرف أخبارنا، لكننا لا نستطيع إيصالها له في ظل منع زيارات المحامين، فنعاني كما يعاني أهالي الأسرى من شوق الانتظار".
وفي رسالة يوجهها الأسير صالح منصور يقول:
"أنا الأسير الفلسطيني صالح القِنّة، قضيت أكثر من 23 عاماً داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي. أنا واحد من بين الأبطال الذين وهبوا حياتهم في سبيل الحرية والكرامة الوطنية خلف قضبان الظلم. لم تنكسر إرادتي ولم أتراجع عن مبادئي على مدار أكثر من عقدين من الأسر، كنت مثالاً للصمود ومحارباً بالقلب والعقل ضد قمع السجّان. تتطلع أنظاري، أنا وأسرتي وشعبي، إلى أملٍ قريب يتمثل في الإفراج عني ضمن صفقة تبادل الأسرى المنتظرة. فأنا، كغيري من الأسرى، لم أفقد إيماني بأن فجر الحرية قادم، وبأن الظلم مهما طال فلا بد أن يزول. أنا لست مجرد اسم أو رقم في قائمة الأسرى، بل قصة كفاح وصمود تعبّر عن أمل شعب بأكمله في العيش بحرية وكرامة، وعن قوة الشعب الفلسطيني الذي لا ينحني للظلم".