في قبو معتم تحت الأرض يعرف بقسم "ركيفت" في سجن "الرملة"، خرج المعتقلون الفلسطينيون إلى الزيارة والدموع تخنق وجوههم.
لم تكن تلك دموع الشوق للعائلة ، كانت دموع الرعب والضرب والتهديد الذي فرض عليهم قبل اللقاء لإجبارهم على ترديد أن "الأوضاع ممتازة"، فيما منع المحامون من نقل أي معلومة عن الخارج أو عن الحرب المستمرة.
الإفادات التي خرجت من هناك كشفت رحلة جحيم مكتملة الأركان: ضرب متواصل، تكسير للأصابع، عزل شامل بلا شمس، و"فورة" لا تتجاوز عشرين دقيقة كل يومين، يقضونها مكبلين ورؤوسهم إلى الأرض.
توزع الفرشات مساء وتسحب صباحا ليظل الجسد أسير الحديد طوال النهار.
فوق ذلك، إذلال ممنهج عبر الشتائم وإجبار المعتقلين على سب أمهاتهم وعائلاتهم، فيما يخيم الخوف كظل لا ينفك عنهم.
في مشهد مؤلم ظهر أحد المعتقلين عند الزيارة بآثار الضرب والقيود على جسده، عاجزا عن الكلام، واكتفى بعيون تفيض بما لا تستطيع الكلمات حمله. لم يكن وحيدا فالرعب رسم الملامح ذاتها على وجوه الجميع.
التحقيق.. رحلة الألم المتواصل
مرحلة التحقيق بدت محطة مركزية في رحلة العذاب.
المعتقل (أ. ي) تحدث عن ثمانية أيام في "البركسات" خضع خلالها لتحقيق "الديسكو"، ثم تحقيقات عسكرية يومية في عسقلان استمرت شهرا كاملا وهو مقيد، تعرض فيها للضرب حتى تمزق صدره.
ووصف المعتقل (ي. د) كيف فقد وعيه مرارا تحت الضرب والشبح، وكيف خلعت القيود من يديه مرتين من شدة العنف تاركة إصابات في رأسه وصدره وأذنه وبصره.
وروى المعتقل (ع. ب) أن المحققين في عسقلان تعمدوا ضربه على خصيتيه للضغط عليه، وعصْب عينيه ورميه أرضا ثم نقله إلى "الرملة" حيث كسرت أصابعه.
الجوع والمرض.. سلاح إضافي
إفادات المعتقلين لم تتوقف عند الضرب والتعذيب، لقد وصفت واقعا أقرب إلى "المجاعة".
لقيمات قليلة، فاسدة أحيانا، يجمعونها لوجبة واحدة بالكاد تكفي شخصا واحدا ليتقاسمها عشرات. الأجساد منهكة، الأوزان تتناقص، والأمراض تنتشر، على رأسها الجرب (السكابيوس) الذي حرم المعتقلون عمدا من أي علاج له، فتحول إلى وباء ينهش أجسادهم.
غوانتانامو الاحتلال.. وجوه متعددة
منذ بدء حرب الإبادة على غزة، اعتقل الاحتلال آلاف المدنيين، بينهم نساء وأطفال وكبار سن وجرحى وأطباء وصحفيون.
يواصل إخفاء المئات قسريا، رافضا السماح حتى للجنة الدولية للصليب الأحمر بزيارتهم.
الإفراج عن بعض المعلومات سمح بتوثيق الجرائم في معسكر "سديه تيمان" وقسم "ركيفت" اللذين باتا يشبهان "غوانتانامو" إسرائيليا بامتياز بما شهدا من تعذيب جسدي وجنسي وجرائم طبية أدت إلى استشهاد العشرات.
حتى اليوم، عرفت هويات 46 شهيدا من معتقلي غزة ضمن 76 أسيراةومعتقلا استشهدوا منذ بداية الحرب فيما يظل مصير كثيرين في طي الغياب.
مكتب إعلام الأسرى أكد أن ما يجري في "ركيفت" و"سديه تيمان" يمثل ذروة توحش الاحتلال، محذرا من أن استمرار هذه السياسات سيؤدي إلى مزيد من الشهداء داخل المعتقلات، ومؤكدا أن جرائم الاحتلال الممنهجة ضد المعتقلين تندرج في إطار جرائم الحرب التي تستوجب المحاسبة الدولية العاجلة.
من "ركيفت" إلى "سديه تيمان"، يواجه معتقلو غزة موتا بطيئا يشبه غرفا مظلمة بلا أبواب، حيث يتحول الجسد إلى ساحة للتجربة، والنفس إلى رهينة للرعب والجوع والمرض. إنها صورة مصغرة من الجحيم، تكشف أن السجون الإسرائيلية ليست سوى "غوانتانامو" بأسماء مختلفة، وأن الصمت الدولي شريك في هذه الجرائم.