محملين بالشوق والقلق تقودهم قلوبهم إلى تلك الغرف المتنقلة من صفيح علهم يجدون فيها ملامح غابت عنهم كثيراً يروون عطش لقاء طال انتظاره، ولكنهم في غالبية الأوقات يعودون بشوق أكبر وألم مضاعف وعذابٍ تخطه في أذهانهم سياسات المحتل الظالمة.
وتعتبر غرفة الانتظار قبل الوصول إلى جلسات المحاكم الصهيونية محطة أخرى من العذاب للأسرى وأهاليهم، فساعات طويلة تفصل الأسير عن جلسة محاكمته يذوق فيها أصنافا من المعاناة بشكل متعمد من السجان الظالم.
رحلة عذاب
قبل موعد المحاكمة المعينة للأسير بأيام يتم نقله في "البوسطة" وهي الحافلة الحديدية المصممة لمضايقة الأسير طيلة رحلة العذاب تلك؛ فالمقاعد حديدية والنوافذ ضيقة وساعات طويلة من الجلوس دون حراك مقيداً من يديه وقدميه ومحروما من تلبية احتياجاته الطبيعية.
وليتها تنتهي الحكاية في حافلة الموت تلك؛ فبعد الوصول إلى أقرب مركز توقيف قريب من المحاكمة "المعبار" يقضي الأسير ساعات طويلة في غرفة ضيقة جدا فيها مقعد إسمنتي وخالية من التهوية؛ يوضع الأسرى فيها بدون النظر إلى حجمها واتساعها ويبقون رهائن فيها حتى انتهاء يوم العمل في المحاكم العسكرية في "سالم" و"عوفر"، ويُحرم الأسرى المتواجدون فيها من أي حقوق سواء الخروج إلى الحمام أو تلقي وجبات من الطعام أو تهوية للتنفس بشكل طبيعي؛ فهي تخنق الأسرى وتكتم أنفاسهم في عملية متعمدة من قبل إدارة السجون الصهيونية.
ويقول الأسير المحرر المريض لؤي صبحي فريج (45 عاما) من مدينة قلقيلية لـ مكتب إعلام الأسرى إن الانتظار في تلك الغرف يكون بصورة مؤلمة تقشعر لها الأبدان وتطيش من خلالها الأذهان؛ فهي تمس كرامة الأسير ومعنوياته وكل تفاصيل حياته في الأسر منذ عملية النقل من السجن في البوسطة مكبلا بالقيود حتى وصول المحكمة والعودة إلى السجن من جديد.
ويوضح أنها رحلة عذاب طويلة تزيد عن 12 ساعة من العذاب والسفر المرهق وقلة الطعام والشراب وعدم السماح بدخول دورات المياه وغيرها من الإجراءات.
ويضيف:" عندما يخرج اسم الأسير إلى البوسطة لحضور محكمة ينتابه شعور بالقهر والتذمر والشكوى؛ فهي عملية شاقة بكل ما تعنيه الكلمة من عذاب وحرمان وضيق وتعب وإرهاق؛ وهي وصفة للتنغيص ويَبيت الأسير ليلته وهو يفكر في عملية النقل خلال البوسطة مقيداً في اليدين والقدمين على كرسي من الحديد ينال من جسده حتى يصل غرفة الانتظار و يوضع فيها وهو في غاية الإرهاق والتعب".
ذكريات مؤلمة
ويستمر مسلسل العذاب النفسي وينتهي اليوم دون أن يخرج الأسير من غرفة الانتظار إلى المحكمة العسكرية التي تكون قاعاتها بعيدة عن الغرفة عدة أمتار؛ فقد فيحضر المحكمة و حضوره شكلي ووهمي فقط، وتلك من الأساليب التي يلجأ إليها ضباط المخابرات الصهيونية للتنغيص على الأسير وعدم استقراره في سجنه.
ويشير فريج إلى أن بعض الأسرى يقضون العام كله داخل البوسطة وغرفة الانتظار لورود اسمهم في عدة قضايا؛ ويكون مكوثهم في المعابر الأمنية والبوسطة وغرفة الانتظار أكثر من مكوثهم في غرفة السجن وأقسامه وهذا هو العذاب بعينه.
ويتابع:" غرفة الانتظار لها ذكريات مؤلمة في ذاكرة كل أسير عرض على المحاكم العسكرية؛ فهي كلمة شائعة بين أوساط الأسرى وعندما تُذكر تذكر معها التفاصيل المؤلمة والذكريات الحزينة، فالعديد من الأسرى يلتقون فيها بعد رحلة عذاب طويلة ويتبادلون الأوضاع في سجونهم و أخبار بعضهم البعض، وكأنها محطة لقاء تحت وطأة العذاب النفسي و الإرهاق الجسدي".
ولكن كعادتهم يبرع الأسرى في تخفيف العذاب عن أنفسهم داخل غرف الموت هذه؛ وذلك من خلال تبادل الأخبار بينهم والتخفيف على بعضهم ورفع معنويات آخرين، ولذلك يحاول الاحتلال منع اختلاط الأسرى من نفس المنطقة الجغرافية ولكنه يفشل في عملية الفصل التام؛ فيختلط أسرى سجن بسجن آخر ويتدارك السجانون الخطأ ويعيدون كل أسرى سجن معين إلى غرفتهم الخاصة بهم حتى لا يعلم الأسرى الآخرون عن أحوالهم شيئا.
ويقول فريج:" السجانون يستكثرون على الأسرى الاختلاط مع بعضهم البعض من سجون مختلفة حتى تبقى عزلتهم موجودة ولكن بالرغم من كل التشديدات إلا أنهم يقعون في خطأ التوزيع ولو لفترة قصيرة".
وتكون هده الفترة فسحة أمل لأسير أمضى ساعات وأياما مكبلا في حافلة حديدية أو داخل غرفة إسمنتية كالقبر.. ليتكشف السجن عن عذابات جمّة لا يعلمها إلا من عاشها!