انتصر الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال الصهيوني في معركة كرامتهم و كرامة شعبهم الثانية ، و لكن – وكطبيعة كل الثورات المنتصرة – ليس قبل ان يخوضوا معركة متميزة و فريدة من نوعها في شكلها و جسارتها و ظروفها وفي نتائجها من حيث التكاليف و العوائد . فكيف تم ذلك ؟
اتخذت مواجهة الاسرى الفلسطينيين لسجانيهم هذه المرة شكلا متميزا و ابداعيا ، فهي لم تبدأ بالاضراب المفتوح عن الطعام ، بل سبق ذلك مرحلة نضالية متميزة بدأت في 16-2 في النقب ثم في 28 فبراير 2019 وهي حل التنظيمات ، حيث أعلنت اربع حركات فلسطينية و هي حماس و الجهاد الاسلامي و الجبهة الشعبية و الجبهة الديموقراطية حل نفسها ، و بعبارة أدق إنهاء ما يعرف بالتمثيل الاعتقالي أمام ادارة السجون ، مما يعني ان كل اسير هو ممثل عن نفسه ، لتضرب بهذا في الصميم كل منظومات العمل لادارة السجون القائمة على وجود تمثيل اعتقالي قوي لأسرى تنظيمات فلسطينية متماسكة و ملتزمة ، مما يعني إدخال الادارة في حالة من الارباك و في وضع الطوارىء من حيث الميزانيات و استنفار مستمر للقوات و جلب قوات إضافية من الجيش و بقية الاجهزة الامنية ، وهذا وضع لا يمكن تحمله لفترة طويلة.
ستدرك سلطات الاحتلال بعد اليوم ان حل التنظيم يعني إخراج " المارد من قمقمه " دون قيود ، مما أدى لقيام اسرى قسم 1 في رامون في 18-3 بخطوة غير مسبوقة ، فحرقوا 14 غرفة من غرف قسم 1 الخمسة عشر ، و خرج الاسرى من غرفهم دون خطوات عنيفة ضد السجانين ، فانتقمت عصابات القمع منهم بضرب 56 اسيرا من اصل 88 اسير في مخالفة واضحة لقوانين و أعراف السجن المعروفة و القاضية بمنع ضرب أسير مقيد لا يمثل اي خطورة على حياة طاقم الامن ، و كان من بين الجرحى و المضروبين قادة من الفصائل منهم معاذ بلال و زيد ابسيسي و كميل حنيش .
ثم جاءت " لحظة الذروة " في نضال الاسرى الفردي الناتج عن حل التنظيم ، و هي قيام الاسير الحمساوي اسلام وشاحي من مخيم جنين في يوم 24-3 بطعن ضابط و شرطي في قسم 4 الممتلىء بأجهزة التشويش الضارة و التي اراد بها وزير الامن الداخلي اردان و بدوافع عنصرية و انتقامية منع الاسرى من التواصل مع ذويهم و اهلهم ، فما كان من سلطات الاحتلال الا ان استدعت قوات النخبة و جيشها المهزوم كقوات جفعاتي ليس للسيطرة الامنية على الاسرى -فقد تمت بالفعل- ، بل للانتقام الغريزي و الهمجي من كل الاسرى فبدأت القوات بالنداء و استدعاء قادة الاسرى بالاسم وهم مقيدون ثم أطلقوا النار عليهم و ضربوهم كما حدث مع مسؤول حماس في النقب المهندس سلامة قطاوي ، و نائبه مصعب ابو شخيدم و امير قسم 4 أحمد الصيفي .
الى جانب " ذروة النقب " النضالية كان العالم على موعد مع لحظة تاريخية من لحظات نضال الشعب الفلسطيني و قمة اخلاقية جديدة ، وقد تكون غير مسبوقة من قمم دفاع الشعب عن أسراه حيث قامت أذرع المقاومة الفلسطينية في غزة ، و نتيجة خطأ مبارك و مشرف و بشكل فوري و أثناء سيلان دماء اسرى قسم 4 في النقب نتيجة قمعهم في ليلة باردة و مطيرة في عراء صحراء النقب القاحلة بإطلاق صاروخ طويل المدى من فخرالصناعات الفلسطينية العسكرية الى قلب الاحتلال شمال تل ابيب ، و ذلك على الرغم مما قد يعنيه ذلك من دخول حرب عسكرية واسعة و باهظة التكاليف ضد قطاع غزة المحاصر و المكلوم ، حينها و حينها فقط أدرك نتنياهو ان قرارات أردان ضد الاسرى قد تهدد مستقبله السياسي قبيل انتخابات الكنيست بتاريخ 9-4-2019 ، فقرر البدء بخطوات التراجع عن الهجمة ضد الاسرى، ومن اهمها تنحية الوزير اردان عن التعامل مع ملف الاسرى ومتابعته له شخصياً و ما بعد ذلك كله تفاصيل على اهميتها .
لم تقتصر لحظة الوفاء الفلسطيني للأسرى على صواريخ " تل أبيب الخاطئة " بل تعدتها لتشمل ممارسة ضغوط سياسية كبيرة لتحقيق مطالب الاسرى العادلة ، و قد أشرف عليها و تابعها شخصيا و أولا بأول رئيس المكتب السياسي لحماس اسماعيل هنية الى جانب أعضاء القيادة روحي مشهى و موسى دودين ، حيث تم نقل رسائل واضحة لا تقبل التأويل لحكومة اسرائيل من خلال الاخوة المصريين انه لا يمكن تحقيق التهدئة مع غزة دون وقف الهجمة الشرسة على الاسرى ، الامر الذي زاد من أزمة نتنياهو و عزز من معضلته و دفعه باتجاه الإستجابة لمطالب الاسرى العادلة و الانسانية .
اضطرت ادارة السجون و بتوجيهات من مكتب رئيس الوزراء نتنياهو للدخول في حوار مع قادة الاسرى المجتمعين في قسم 4 رامون و على رأسهم رئيس هيئة حماس محمد عرمان و رئيس هيئة الجهاد زيد ابسيسي و المصرين بذكاء للدفاع عن أنفسهم و إلغاء كافة الاجراءات القمعية ضدهم ، وتمكينهم من معالجة شرارة الازمة من خلال تمكين الاسرى من التواصل الانساني مع عائلاتهم و قد تم ذلك الى حد كبير ، و لكن ليس قبل سبعة ايام من إعلان الاسرى لبدأ معركة الاضراب المفتوح عن الطعام ، حيث وافقت حكومة الاحتلال على العديد من المطالب ومن بينها ما كانت تعتبره " لعنصريتها المعهودة " محرم على اسرى فلسطين الامنيين ، مباحا على الاسرى الجنائيين من كل جنس ، وهو تركيب هواتف عمومية داخل الاقسام ، و ليحقق الاسرى بذلك مطلبا تاريخيا عادلا بذلوا من أجله الكثير كاضراب 2017 الشهير بقيادة المناضل مروان البرغوثي .
وهكذا انتصر الاسرى على جلاديهم .