تتنهدُ النفسَ ارتياحاً مستحقَاً بعد مسيرةٍ طويلةٍ شاقةٍ من جهدٍ وكدٍ وإعداد، بُذلت فيها الدماءُ والأعمارُ والدورُ والأشجار، غابَ فيها الأحبابُ وحُرقت فيها الأعصاب، لتُنبتَ الأرضُ ثمرَها حرا جنيَّاً، ويهدرَ البحرُ طرباً شجيَّاً، ويضحكَ الوطنُ ممتناً أبيَّاً، ويذرفَ دمعَ الفرحِ مدراراً نديّاً، فيه غصةُ فراقِ الأحباب، يمرُ في تفاصيلِ وجوهٍ أرهقَها السهرُ ومطاردةُ المحتلين بكرةً وعشياً، لكنها أزهرت أخيراً وضّاءةً بهيةً إثرَ انسحابِ آخرِ جنديٍّ صهيونيٍ من قطاعِ غزة قبل ثمانيةَ عشرَ عاماً، وقد فككوا مستوطناتِهم وخربوا ديارَهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار، اطمأنت النفوسُ أن خيارَها كان منذُ البدايةِ صائباً، ولابد إذاً من الاستمرار، أما العدوُ فبنى لنفسِه وهماً أن يجعلَ من غزةَ عبرةً في المعاناةِ لكلِ من يفكرُ في نقلِ التجربةِ وتَكرارِها، ولقد أعطى الشعبُ الفلسطينيُ خيارَ غزةَ ثقتَه بما برهنته من واقعيةٍ ومصداقيةٍ، فكانت بجدارةٍ عند مستوى الطموحِ والتطلعات، وبدّدت وهمَ الاحتلالِ بأسرِ الجنديِ شاليط، وبغطاءٍ سياسيٍ مميز، لأن حكايةَ غزة هي حكايةُ الوفاءِ لمن كانوا شركاءَ في بناءِ مجدِها وانتزاعِ حريتِها.
قبلت أن تدفعَ الحصارَ ثمناً لتواجِهَ الآلةَ العسكريةَ الصهيونيةَ حرباً تلوَ حرب، وتخوضَ معركةً أمنيةً تُدرسُ في الحفاظِ على الجندي الأسير، ومعركةَ عقولٍ بدّدت فيها وهمَ المحتلِ للمرةِ الثالثة، بعد إزالتِه من غزةَ واستمرارِها في النهج، يتنهدُ الوطنُ والشعبُ والأهلُ في طلّةِ الملثم، رمزِ كرامةِ الأمةِ وإعلانِه تمامَ صفقةِ وفاءِ الأحرار، ولتثبتَ غزةُ مرةً أخرى أنها غزة، ويخرجُ الأبطالُ من العتمةِ إلى النورِ وينتشرون في الوطنِ وخارجِه انتشاراً ظنّ الاحتلالُ أنه بذلك شتَّتَهم، ولكنه في واقع الأمرِ انتشارٌ للنهجِ ليعودَ أقوى، ويبشرَ بما هو خيرٌ وأبقى وهو ما كان.
لقد انتزعت غزة حريتَها بسيفِها، وحمَت نفسَها وخيارَها وشعبَها به، حتى أصبح باقتدارٍ وجدارةٍ سيفَ القدس، تلوِّحُ به المرةَ تلوَ المرة في وجهِ الأعداءِ الذين خبروا ضربتَه القاسمة، فينكفئون عن أسرانا ويُحذرون من المساسِ بمسرانا، وقد سُئلت غزةُ عن سرِ قوتها وحكايةِ عزِّها فقالت: مقاومةٌ بتضحية، وثباتٌ باصطبارٍ، ودأبٌ وإعدادٌ بنفسٍ طويل ووفاءٌ للأحرار.