لا تجد أسيراً تحرر من سجون الاحتلال لا يحمل في ذاكرته مجموعة من الأحداث التي عايشها داخل الأسر، فلا يمل المحرر من سرد هذه الأحداث مراراً وتكراراً؛ لأنها منقوشة في الذاكرة كالنقش على الصخور الصلبة، وعند سؤال أي محرر عن أحداث مر بها يكون الجواب جاهزاً عنده، فيسردها كصحفي محترف أو صاحب رواية يتقن فن روايتها.
المحرر المربي محمد خضر والذي أمضى أكثر من ست سنوات في الأسر يروي في حديثٍ له كيف انتقل من سجن مجدو مع مجموعة من الأسرى إلى سجن النقب الصحراوي وزجّت إدارة السجن بهم في أقسام من الغرف لا يوجد فيها أياً من مقاومة الحياة، يقول"هذه الحادثة لا أنساها، فعند دخولنا الغرف لم نجد فرشة ولا كاسة أو ملعقة ولا صحن، وبقينا على هذا الحال أكثر من شهر حتى تم إحضار اليسير من الأغراض، وكان معي جهاز كهربائي للتسخين يطلق عليه"مزليك".
يوضح خضر"كان هذا الجهاز المتواضع يمر على 12 غرفة لاستخدامه في تسخين الطعام، وهذا الاستخدام فوق الطاقة والتحمل، فهو للاستخدام الفردي فقط وللحاجة الضرورية، لكن كان الاستخدام له جماعي، وهذا الجهاز قام بدوره دون أن يتعطل".
ويضيف خضر"مصلحة السجون تسعى دوماً لعدم تلبية احتياجات الأسرى الضرورية، فلا يعقل أن يُزج بالمئات من الأسرى في أقسامٍ لا يوجد فيها سوى الجدران والأبواب فقط".
أما المحرر محي الدين أحمد والذي أمضى تسع سنوات في الأسر تحدث عن نجاتهم من حادثة مؤلمة، وهي استشهاد الشهيد الأسير محمد الأشقر عام 2007، على يد قوات المتسادا بدمٍ بارد، يقول" كنا نعترض على نقلنا من مجدو والفارغة بدون مقومات حياة، وبعد أسبوعين جرى اقتحام لقسم الخيام في سجن النقب، واستشهد الأسير محمد الأشقر داخل خيمته وتم التنكيل بكل الأسرى هناك، عندها قلنا: لو كنا معهم لأصابنا ما أصابهم من قمع وضرب واعتداء وإهانة، وقال بعضنا مازحاً"الحمد لله أننا عشنا في القسم بدون ضرب وسحل وإهانة".
ويسرد المحرر محي الدين ما جرى له من تحقيق لأنه تحدث مع معتقل يهودي جنائي، وجرى التحقيق معه عن طبيعة العلاقة معه، ولماذا كان الحديث بينهما".
المحرر الإعلامي د.أمين أبو وردة والذي أنتج داخل الأسر عدة مؤلفات قال" تجارب الأسرى الشخصية تبقى في ذاكرتهم طوال حياتهم ولا ينسون أياً من تفاصيلها فهي جبلت بالمشاعر والأحاسيس وليست أحداثاً عابرة، وخلال حديثي مع الأسرى داخل الأسر كانوا يسردون لي أحداثاً بالتفاصيل المملة مر عليها أكثر من عشر سنوات وكأنها حدثت معهم قبل أيام وأسابيع، وعند عملية السرد يكون التفاعل مع الحدث دافئاً وظاهراً للطرف المقابل المستمع لتفاصيل الرواية".
يضيف أبو وردة" كلما مر زمان طويل على القصة يكون الدافع للمحرر أكثر للحديث عنها، وكأنه يتم استدعاء الذاكرة كي يخبر الأسير من حوله عن طبيعة الأسر وتفاصيله المؤلمة وخصوصاً تلقي أخبار وفاة الآباء والأمهات والحوادث المؤلمة".
المرشد النفسي المحرر حاسم الشاعر أكد على أن القضايا النفسية التي ترافق الأسير داخل الأسر هي من القضايا الحساسة، ولها مكانة خاصة في حياته، فالإنسان لا ينسَ تجاربه المريرة، وخصوصاً إذا تكررت في حياته عدة مرات، والكثير من الأسرى يتكرر اعتقالهم وتتكرر أيضاً المشاهد والتجارب لهم، وهنا يكون في ذاكرة المحرر مخزون من الأحداث ذات الصفة الخاصة، ويكون لديه الميل بالتحدث عنها، لأنها في وجهة نظره مهمة جداً".