"نسخةٌ مصغرة عن والدك"، عبارةٌ يسمعها طفل أسيرٍ يومياً، تجعل منه طفلاً نسخت فيه كل ملامح وجه والده، وتكبر الملامح بانقضاء كل يوم، تحاول والدته أن تبحث عن أبيه فيه، وأن تسرد له بطولاته، وتطمئن قلبه بأن الزيارة القادمة لأبيه ربما لن تحمل منغصاً ما، ربما لن يتم إعادتهما عن المعبر، وربما سيسمح له هذه المرة أن يدخل ليحتضنه قبل أن يفوت الآوان ويصل لسنٍ بحسب قوانين الاحتلال يمنعه من الزيارة بدون تصريح.
عمر سليم حجة (16 عاماً) نجل الأسير سليم حجة (46عاماً) من سكان بلدة برقة، قضاء مدينة نابلس، طفلٌ تتماثل سنوات عمره مع عمر والده داخل السجون، ويكبر كل مرة أملاً أن يطفئ والده هذه المرة شموع الانتظار معه، ويكون حاضراً في نجاحاته وأيامه الجميلة، تماماً كما في لحظات فشله وأيامه السيئة.
عمر ولد مع حكاياتٍ بطولية لأبيه، مع عمره السالف وكيف أمضاه، ومن الحكايات تشبع بفكره، حتى أصبح نسخةً داخلية كما هو شكلها لأبيه، في سنٍ غض علم أن والده لم يمض فقط 16 عاماً في الأسر، بل سبقتها ستة سنواتٍ آخرى.
لطالما طلب عمر حجة من والدته الحديث عن أيام فرحهم فأخبرته أنهم اختطفوها جميعاً، وحاربت هي وزوجها طويلاً حتى يحصلا على أطول مدة ممكنة من الفرح، فقد تزوجت في ظروفٍ غير تقليدية، كان مطارداً، وتزوجت وحضرت صورته فقط حفل الزفاف، وكما والدته يحفظ عمر حجة للأبد مسيرة والده النضالية، تسلسل اعتقاله والطريق الأخيرة التي لم يعد منها حتى الآن.
البدايات
في العام 1993 تعرض الأسير المؤبد سليم حجة لأول اعتقال، مكث فيه 60 يوماً قيد التحقيق، وخرج دون أن تثبت بحقه أي تهمة، وعام 1994 تعرض حجة لاعتقالٍ ثانٍ، وصدر بحقه حكمٌ يقضي بسجنه مدة تسع سنوات، خفضت لاحقاً لستة سنوات، وفي أعقاب انتفاضة الأقصى أصبح الأسير سليم حجة على قائمة المطلوبين، اعتقل بعدها في مقر الامن الوقائي في بيتونيا، وجرى اعتقاله لاحقاً على يد الاحتلال في أعقاب اجتياحه لرام الله، وحصاره لمقر الأمن بتاريخ 2/4/2002.
ستة أيامٍ بعد المئة هي الفترة التي قضاها الأسير سليم حجة في التحقيق، في مكانٍ لم تعلم عائلته أين هو، ولم تصلهم أخباره طيلة هذه الفترة، ولسنواتٍ لاحقة كان ممنوعاً عليه أن يرى أي فردٍ من عائلته.
اللقاء الأول
تستذكر زوجة الأسير سليم حجة، تغريد حجة كيف كان لقاء سليم بعمر للمرة الأولى، تقول"كان اللقاء الأبوي الاول في محكمة سالم العسكرية لمدة لا تتجاوز الخمس دقائق ومن مسافة الخمس أمتار ولم يسمح له بملامسة ابنه أو رؤية ملامحه عن قرب تلك الملامح التي تتشابه معه وتتزايد كل يوم وتجعل كل من يشاهد عمر يتذكر سليم لشدة الشبه، فهو النسخة المصغرة من والده".
عام 2014 تمكن سليم حجة من التقاط أول صورة تذكارية مع نجله عمر كان حينها بعمر ال12 عاماً، لا تزال زوجته تتذكر كيف أنه كان وفي كل مرة يحصل الأسير البطل سليم حجة على تصريح من إدارة السجن يسمح له بالتقاط صورة مع ابنه عمر، يحصل تأخير أو رفض يوم الزيارة يمنع حصول ذلك، وتتحطم أحلام عمر باحتضان والده والتقاط صورة معه.
تقول تغريد حجة"ربما يبدو هذا الأمر للبعض بسيطاً في مقاييس الألم، لكنه بالنسبة للأسير وعائلته الحلم الجميل، أن يحتضن عمر والده ويضمه وتخلد هذه اللحظة بصورة تذكارية، صورة التقطت لاحقاً، ولم تتعد مدتها سوى دقيقتين، قبّل فيها عمر والده وضمه الأخير واشتم رائحته بعد مدة طويلة، وخرج عمر والدموع تتسابق من عيونه الزرقاء لتخرج وتعبر عن حرارة اللقاء ولوعة الحنين لأحضان والده، دموعٌ حرقتني ووالده".
عمر حين خرج من تلك اللحظة التي طال انتظارها، قال"المهم إني احتضنت وقبلت أبي، الصورة ليست مهمة، غداً في المدرسة سأخبر أصدقائي وأخيراً بأني التقطت برفقة أبي صورة للمرة الأولى منذ 12 عاماً".
المواقف الأخرى في حياة الأسير سليم حجة خاصة تلك المؤلمة لا يمكن حصرها، الصورة الأولى برفقة زوجته بعد 16 سنة، اللقاء الاول مع شقيقه الأسير مصطفى بعد سنوات، داخل السجن، وحين رأى سليم للمرة الاولى أبناء شقيقه في الزيارات وتعرف عليهم، وتعرف الأطفال على عمهم.
الزيارات القاتلة
حتى اليوم تتعرض أم عمر في كل زيارة لزوجها للحجز على معبر الدخول لفترات تمتد أحياناً كثيرة لساعات، تقول أم عمر"في الآونة الأخيرة أيضاً يتم سحب تصريح الزيارة مني وأمنع من هذا الحق، والأمر تكرر أكثر من مرة، وبناء عليه كان عمر يحرم من رؤية والده لأنه لا يحمل هوية شخصية بعد، ولا يملك تصريحاً خاصاً به".
يؤلم قلب أم عمر أن تراه في كل مرة محطماً على المعبر، ولا تتذكر كم تحطمت آماله برؤية والده هناك، وكم يتأثر عاطفياً عند إصدار الأوامر لهما بالرجوع ولكنه يتصنع الصبر مجبراً لمواساة والدته، وكل زيارة يتمنى أن يدخل ليستغل الفرصة لرؤية والده قبل أن يبلغ عامه 16 وهو الوقت الذي سيحصل فيه على هوية شخصية، وعندها عليه انتظار تصريحه الخاص الذي لا تدري العائلة إن كان سيحصل عليه أم لا.
توضح تغريد معالم الإرهاق والترقب عند الزيارت فتقول"في كل زيارة، حتى وإن دخلت يتم إيقافي في مكان تفقد الهويات والتصاريح، تؤخذ هويتي، ويتم إدخال اسمي، ويظهر خطٌ أحمر تحته، فأعلم أنه لابد لهم من مراجعة المخابرات، يوقفوني بعيداً، وأنتظر أحياناً لدقائق وأحياناً لساعة وإحياناً لثلاث، وتبدأ أفواج الناس بالدخول وأنا مكاني، حتى أن أهالي الأسرى في كل مرة أكون معهم يقولون لي، سيحجزونك هذه المرة أيضاً، فقد أصبح الأمر متعارفاً عليه، الآن ليس بحوزتي تصريح وعلي متابعة أمر الزيارت مع مؤسسة حقوقية تكفل حقي وتنظر في أمر احتجازي في كل زيارة".
عمر والسجن
داست أقدام عمر في سجونٍ كثيرة في الزيارات الشحيحة، كان له نصيب أن يزور والده في إيشيل وجلبوع وريمون وشطة ونفحة، وكان ينقل بنفسه أخبار أبيه لأعمامه وعماته الممنوعون من حقهم في رؤية شقيقهم منذ اعتقاله.
تعلّم عمر من والده كيف يصنع من القهر متسعاً للحياة، شهد على نجاحاتٍ كثيرةٍ له، كحصوله على الدبلوم في تخصص تأهيل دعاة، وعلى درجة البكالوريوس في تخصص التاريخ، ومن ثم الالتحاق بالجامعة لدراسة تخصص الإعلام، وإطلاقه كتابه الشهير بعنوان درب الأشواك، الذي لخّص فيه ثمرة نضاله.
تقول تغريد حجة"لا زال لدينا أحلامنا البسطية، صورٌ تذكارية، لحظة لقاءٍ من خلف الزجاج، نظرةٌ عابرة، سرقة للسعادة من براثن الاحتلال، وما يسلي النفس حقاً الفخر الذي نشعر به بكوننا نشكل عائلة لأسير فلسطيني بطل، الأسير البطل سليم حجة تاج عزنا ووقارنا رغم كيد المحتل، وعسى أن يكون نور الحرية له ولنا قد اقترب".
لم يدع الأسير سليم حجة الأسر يقف عائقاً بينه وبين حوراته الشيقة بين ابنه، نقاشاتهمها حول ما سيصبح حين يكبر، أخبارٌ يسهل على عمر مناقشتها مع والده، دراسته في صفه العاشر، خوفه من أن يدخل سن ال17 عاماً، ويمنع من زيارته، اليوم كل ما ترجوه عائلة الأسير سليم حجة هو أن يضمن عمر حقه من الزيارت قبل عمر ال17 عاماً ودخوله عالم التصاريح والرفض الامني، لكن هذا الأمر يسلب منهم في أحيانٍ كثيرة.
عدد المرات التي أُرجع فيها عمر عن المعبر، وكانت تفصل بينه وبين والده مسافة أمتار، لا تحصى، دموع أمه عليه وقهرها لأجله لا يعلم به أحد، استغلالهما لما تبقى من وقتٍ وتكرار الزيارة هو الأهم، رغم أن السيناريو يتكرر في كل مرة، حجزٌ، فرفضٌ للتصاريح، فإرجاعٌ، فخيبة أمل.