مع اقترابِ ذكرى دخولي العامَ الثالثَ والعشرينَ في الأسرِ استوقفتني الكثيرُ من الأحداثِ خلال عقدينِ من الزمنِ، واليومَ سوفَ نتحدثُ عن أهمِها بالنسبةِ لي، لعلَ هذا الحدثَ يحركُ مشاعرَ وضمائرَ كلِ حرٍ شريفٍ مناضلٍ وطنيٍ على أرضِ فلسطينَ وخارجَ أرضِ فلسطينَ ، هوَ الموقفُ الذي عبرَ عن تلكَ الأمِ الصابرةِ المحتسبةِ الشامخةِ شموخَ الجبالِ، هيَ الأمُ التي رسختْ معنى التضحيةِ بأفعالِها وأقوالِها هيَ الأمُ التي خرجتْ عنْ صمتِها بعدَ أكثرَ من عقدينِ من الزمنِ لعلها تجدُ آذانا صاغيةً كالمعتصمِ وصلاح الدينِ وابنِ الخطابِ..
ذلكَ الموقفُ وذلكَ اللقاءُ الذي كانَ بعدَ أكثرَ منْ عشرين عاما حيثُ سُمحَ لها بالتصويرِ معَ ولدِها ثلاثَ صورٍ فعندَ اللقاءِ.
كانتْ الأمُ تمشي بخطواتٍ مُسرعةٍ نحوَ غرفةِ التصويرِ، فتوقفتْ عندَ البابِ حتى يفتحَ السجانُ البابَ، فكانتْ خفقاتُ القلبِ كريحٍ عاصفةٍ، والأشواقُ كأنهارٍ مسرعةٍ، والحنينُ كالنارِ المشتعلةِ، ففُتحَ البابُ والنظراتُ تلتقي هذا ولدي فِلذةُ كبدي..
فاقتربتْ واقتربَ وكانَ العناقُ والقبلاتُ وتشابكُ الأيدي والقلوبِ والروحِ وبكت العيونُ، وهمساتُ الأمِ : ولدي . . ولدي وللحظةٍ خرجَ صوتٌ شاذٌ يلا تصويرُ ستين ثانيةٍ. كانتْ مدةُ التصويرِ أقل، وبعدَها حانَ وقتُ الرحيلِ، وتقولُ الأمُ : أمنَ المعقولِ أنْ أعودَ دونَ ولدي ؟ ؟ ؟ فسحبتْ يدُ ولدِها نحوَها وقالتْ كلماتٍ كلُّها ألمٌ وشوقٌ: ولدي بكفي يما سجنَ روّح على الدارِ . . . بكفي يما سجنَ روح على الدارِ، ويدُها تسحبني نحوَ البابِ لكيْ تعودَ معَ ولدِها على الدارِ، فكانَ الصمتُ رفيقَ ولدِها كأنهُ فاقدٌ للوعي، ترافِقهُ الدموعُ، يصاحبُهُ الألمُ.. ومرةً أخرى خرجَ صوتٌ شاذٌ : انتهى التصويرُ . . خرجتُ عن وعيي، وقلتْ: أمي انتهى التصويرُ ممنوعٌ تجاوزُ البابِ فعادتْ أمي بخطواتٍ بطيئةٍ تلملمُ جراحَها وقلبُها يتفطرُ على ولدِها وعادتْ إلى صمتِها، ولسانُ حالِها يقولُ: بكفي يما سجنَ روح على الدارِ . . بكفي يما سجنَ روح على الدارِ . . . فهلْ من مغيثٍ مجيبٍ لتلكَ الأمِ الفلسطينيةِ .