"الشدائد تولد الوشائج"
(1) الوشائج: القرابة المشتبكة الْمُتَّصِلَة
لعلها كلماتٍ ذاتُ تركيبةٍ فجعية لكنها حقيقةٌ واقعة من منظوري على الأقل هنا في حال القضية الفلسطينية بمُلماتها وعثراتها وكبواتها وبالأخص داخل سجون الكيان الصهيوني.
البداية ليست بعيدة باعتبار أن الحديث عن الأسرى الفلسطينيين في سجون الكيان الصهيوني يطول وله كثير من الأحزان والأفراح في الذاكرة الإعتقالية والوطنية الفلسطينية معًا؛ ومع ذلك سأُركز على حدث لم نكن على موعد معه؛ ليفاجئ الجميع لما له من ارتدادات ما زالت قائمة، كما أن هذا الحدث له أيضًا مشروعية وقيمة أخلاقية وطنية متجذرة عميقًا داخل وجدان كل أسير فلسطيني حر غير مُستلب الإيمان والإرادة مع حفظ الاحتمال دائمًا بإمكانية وجود البعض الذي استسلم للجلاد وذهب عميقًا معه في نوايا مظلمة ليشكل بأفعاله المريضة والغير سوية ظاهرة -الفئران المبللة- التي إن فكرنا بوجودها بشكل ما، قادنا ذلك إلى الاشمئزاز من أن نراها واقعًا ملموسًا ومؤثرًا فينا.
بالعودة إلى ذلك الحدث الذي غير ربيع العلاقة بين الأسرى الفلسطينيين بتنظيماتهم المختلفة والمتباينة حول معظم الأمور بخلاف وحدتها على "فلسطين" الاسم الجامع لكل الفرقاء من جهة، وأيضًا التغيير الذي حصل بين المُكون الجماعي للأسرى الفلسطينيين وبين إدارة مصلحة السجون الصهيونية من جهة أخرى.
الحدث الفارق بكل أبعاده ومعانيه هو "عملية نفق الحرية" العملية الجريئة التي غيرت السجون الصهيونية بكل مركباتها إلى الأبد؛ ليتم اعتباره من أهم الحوادث المفصلية في تاريخ الحركة الفلسطينية الأسيرة؛ لينعكس كذلك على العقل السائد فيها ليقوم بإعادة صياغته نحو مضامين جديدة كانت مطمورة في أعماق الروح من كل أسير فلسطيني، لتظهر تلك المضامين الثورية وتكتب عنوانها بشكل لافت على جباه أحرار العالم بأن الأسير الفلسطيني انتصر على العجز والخوف. وصنع معجزته بيده، وتحدى الصمت ليطلق صرخة الانتصار على الوهن والضعف، ويمسح دموع الحزن ويرسم ابتسامة الظفر بالعدو في مقتله ومن داخل مكمنه فيعيد رغم الموانع والحواجز وسطوة القوة المهيمنة القاهرة كل النسمات، تشكيل الوعي الفلسطيني وتغييره من المستحيل إلى الممكن.
فها هو الفلسطيني اليوم مرةً بعد أخرى يؤكد أنه بفعله الأسطوري يقدم حجة الحجج على كل المتقاعسين والمتراجعين الذين نقصوا على أعقابهم منذ زمن، وصاروا في طريق المهالك ليسلموا البلاد والعباد إلى سيف الجلاد الذي لا يرحم أحد، وبأنه من تلك البدائية التي تجاوزت التكنولوجيا الصهيونية المتوحشة أكدنا أننا لا ننهزم أمام كآبة الجدران العقيمة، وبرودة قضبان السجن؛ فالروح فينا "كطائر الفينيق" تعيش سرمدية إلى الأبد.
اليوم ومن داخل الزنزانة كل أسير فلسطيني يفكر أكثر بالحرية، الأسرى الستة الذين نفذوا عملية "نفق الحرية" أعادوا تخصيب مُخيلة الأسرى الفلسطينيين من جديد بإمكانية الحرية عبر طرق وأدوات أخرى.
وعليه بدأ الاسرى يطرحون على أنفسهم سؤال، لماذا فكر هؤلاء الأبطال بالخروج من قلب السجن إلى فضاء الحرية دون انتظار أحد؟
قد تكون الإجابة جملة اعتبارية أو سيلًا من العِتاب الذي لا ينتهي، فتجاوُز المجاهد العريق وشجرة السنديانة (نائل البرغوثي) "أبو النور" الأربعين عامًا في القيد، ورفيق دربه المناضل الذي لا يلين (كريم يونس) والذي يلامس الأربعين عامًا خلال أيام معدودات في -سجن الدنيا- الذي ضاق عليه بأركانها؛ لذلك كثير من الأسرى الفلسطينيين يعتبرون أن النظام الفلسطيني القائم لم يؤدي واجبه اتجاه الأسرى الفلسطينيين من خلال العمل الجدي للإفراج عنهم عدا عن تقصير الفصائل الفلسطينية في هذا الملف بخلاف -حركة حماس- التي تعمل بكل السبل والوسائل من أجل الافراج عن الأسرى الأبطال، وأن الدور البارز الذي تقوم به من عمليات الخطف المتكررة سعيًا لعقد صفقات تبادل مع الكيان الصهيوني على غرار "صفقة تبادل فاء الأحرار" عام 2011م يعتبر الفعل الوحيد الذي يمكن اعتباره الأساس المهم في طريق الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين من سجون العدو الصهيوني.
في المقابل وعلى أثر عملية "نفق الحرية" شن الإعلام الصهيوني بكافة مركباته هجومًا على الأسرى الفلسطينيين بإعتبار أن نجاح العملية كان نابعًا من مستوى المعيشة الذي يحيا به الأسير الفلسطيني كما يروج الاحتلال، وعليه يجب تقليص كثير من الانجازات التي تم تحقيقها بعد صراع طويل لم ينقطع مع إدارة السجون من اضرابات ومواجهات ترجّل فيها الشهداء وأصيب المئات من الأسرى الأبطال في تلك المعارك الملحمية؛ ليتحقق بها الإنجاز تلو الإنجاز في حلقة من حلقات الصراع مع العدو الصهيوني في كافة أماكن تواجده؛ لذلك استمر الإعلام بالتحريض على الأسرى وسن السكاكين الغادرة لغرسها في جسد الأسير الفلسطيني الذي يرفض الانكسار.
من هنا انطلقت مرحلة جديدة من التضييق على الأسرى والحرمان من الحقوق المكتسبة تحت عنوان "قرارات لجان التحقيق المتعددة" إثر عملية نفق الحرية؛ ليقع الأسير الفلسطيني تحت مطرقة اللجان العنصرية المشكلة من عناصر يمينية متطرفة التي أقرت رزمة كاملة من الاجراءات العقابية كان أولها نقل وتوزيع أسرى "حركة الجهاد الإسلامي" على كافة الأقسام والسجون وعدم تجميعهم في قسم واحد، والحد من حركة الأسرى بشكل عام داخل الأقسام، وسحب الكثير من الانجازات التي تم تحقيقها عبر سنواتٍ من النضال والتضحية داخل سجون العدو الصهيوني لتتحول أيام الأسرى الفلسطينيين الصعبة إلى أيام أكثر قسوة وشدة وقمعًا؛ ليؤكد ذلك بشكل لا لبس فيه استعداد إدارة السجون وتأهبها الدائم للهجوم على الأسرى الأحرار واستهدافهم في أوضح أشكال العنصرية الصهيونية المبنية على العنف والقمع اتجاههم والتي لم تنتهي حتى زوال الكيان الصهيوني عن أرض فلسطين المقدسة.
لكن كيف تعامل الأبطال وتصرفوا اتجاه الهجمة الشرسة التي تقوم بها إدارة السجون؟
يتبع رقم (2)
الأسير الكاتب/ إسلام حسن حامد 11/10/2022م