في الثاني من شهر نيسان من كل عام، منذ العام 2002، تتوافد الذكريات تباعاً صوب ذاكرة عائلة الأسير سليم محمد سعيد حجة(45عاماً) من بلدة برقة، قضاء مدينة نابلس، 15 عاماً من الانتظار ولا زال قلب أم عمر، زوجة الأسير حجة، يحوي حيزاً من الأمل والقدرة على مواجهة الحياة بقلبٍ متفائل.
15 عاماً، تكاد تساوي عمر نجله البكر، عمر، الطفل الكبير الصغير، الذي كبر بعيداً عن والده، ولم يتسن له إلا أن يراه صوراً ومن خلف الزجاج، لفترةٍ قصيرة يحددها الاحتلال كيف يشاء.
أم عمر، زوجة الأسير حجة، قد تكون عاشت برفقة زوجها الأسير برهةً قصيرة من الزمن، بعد إقدام الاحتلال على اعتقاله، وفي الوقت الذي كان الاحتلال يطارده أينما حل، فهي سنواتٌ اعتقالية مرت على عائلته، وأخرى من الغياب لحقت بهم بعد تجربة المطاردة.
حياة الأسير حجة، قسمت على مراحل نضالية تفتخر عائلته بها، وعاش مسمياتٍ كثيرة أبرزها مسمى الأسر والمطاردة والنضال، كما ولحقت بها تباعاً مسميات أخرى كان لزاماً على الأسير حجة أن يخوض فيها.
فهو الطالب الذي لم تتح له فرصة إنهاء تعليمه خارج الأسر، فناضل وقاوم وتحدى الاحتلال، وتمكن من إنهائها داخل الأسر، وهو الكاتب الذي لم يرد أن تبقى كلماته وتجاربه حبيسة ذاكرته فحسب، فأراد أن يكشف للشعب الفلسطيني وللعالم أجمع جزءاً من الحقيقة، ولمحاتٍ من تجاربه النضالية.
15 عاماً
لا تهتم عائلات الأسرى بالأرقام حباً بها، بل لأن الواقع فرض عليها كذلك، وهي المصادفات التي تزيد ألمهم ومصابهم، رغم القوة التي يتمتعون بها والتي تكفي الشعب الفلسطيني بأكمله.
الرقم 15 يمثل جرحاً في قلب الطفل عمر سليم حجة، نجل الأسير سليم حجة، فهو عمره وعمر السنوات التي يتواجد والده فيها خلف قضبان الأسر، ففي ذات الشهر الذي اعتقل فيه والده وفد عمر إلى الدنيا، وكبر وسار أولى خطواته واحتفلت والدته بأولى أسنانه، في الوقت الذي كان والده لا يزال خلف القضبان يرى طفله الوحيد صوراً فقط.
في الرابع والعشرين من هذا الشهر سيستقبل عمر عامه الخامس عشر بعيداً عن والده، سيودع عاماً آخر من الذكريات التي سلبهم الاحتلال إياها، ومن تجارب الزيارة المضنية والمشاهدات البعيدة من خلف زجاج الزيارة السميك، وسيستقبل كماً آخر من الذكريات المؤلمة أيضاً، في الوقت الذي سيستمر شعور الفخر بوالده قابعاً في قلبه وفي ذاكرته حين يقرأ عن سجله ونضاله وتضحياته لشعبه المحتل.
تقول أم عمر" في هذا الشهر يكمل زوجي 15عاماً في الأسر، في هذا الاعتقال فقط، وكذلك يكمل عمر 15 عاماً من عمره، وبذلك فهو شهرٌ يحمل لي كماً من الحزن وكماً من الفرح في آنٍ واحد".
أم عمر كانت تجد الموقف صعباً حين يطلب منها ابنها الصغير كعكة عيد ميلاد كالأطفال الآخرين، حين تتذكر المشهد وشهر نيسان وما يحمله لها من ألم، لكنها كانت تحقق لطفلها ما يرغب، وتبذل جهدها حتى لا يشعر بالحزن أو الألم أو النقص لمجرد تذكر هذا التاريخ.
اليوم عمر أصبح شاباً، وهو طالبٌ في الصف التاسع، وتؤكد والدته على أن والده دخل الأسر ولم يكن له طفل، وسيخرج ليجد عمر شاباً في انتظاره.
رفضٌ أمني
تمكنت أم عمر من زيارة زوجها بعد فترة من الرفض الأمني في شهر تشرين أول الماضي، ومنذ ذلك الوقت عاد الاحتلال ليحرمها من حق الزيارة بحجة المنع الأمني.
تقول أم عمر" صدر لي تصريح خلال الشهر السابق لكن بسبب الأعياد اليهودية انتهت مدة التصريح دون أن أتمكن من زيارة زوجي، وبهذا يتوجب عليّ أن أنتظر ستة شهورٍ أخرى لأحصل على تصريحٍ آخر".
تؤكد أم عمر على أن زيارة زوجها كانت منتظمة خلال فترة معينة من الاعتقال، لكنهم تعرضوا لاحقاً للمنع الأمني كما هو الحال لعدد من عائلات الأسرى.
تخشى أم عمر أن يتعرض طفلها أيضاً إلى المنع الأمني حين يكمل السادسة عشرة ويتوجب عليه الحصول على هوية وطلب تصريح للزيارة، وتبذل جهدها حتى يرافق عماته وأهل والده خلال الزيارة وأن لا يضيّع فرصة لكي يرى والده، فهي لا تعلم ماذا تحمل لهم السنوات، وتأمل أن لا يأتي العام الجديد إلا وزوجها برفقة طفله وعائلته مرة أخرى.
الأسير الإنسان
في الثاني من شهر نيسان لعام 2002، جرى اعتقال الأسير حجة برفقة عدد آخر من الأسرى أثناء اجتياح مقر الأمن الوقائي في بتونيا، وقد أمضى سليم آنذاك مدة أربعة أشهر في التحقيق، قبل أن يصدر بحقه حكمٌ جائر بلغ 16 مؤبداً، إضافة على 30 عاماً أخرى، بتهمة الانخراط في عدة عمليات نوعية ضد الاحتلال الصهيوني، أبرزها، عملية سبارو وعملية الدلافين وعملية ميحولا.
كان سليم يدرس في جامعة النجاح الوطنية، تخصص شريعة إسلامية، قبل أن يعتقله الاحتلال، عام 1994 مدة خمسة أعوام ونصف، وكان اعتقاله الثاني، وبذلك يكون الأسير حجة قد أمضى في سجون الاحتلال ما يزيد عن 20 عاماً.
وبسبب اعتقاله الثاني عام 1994 انقطع سليم عن الدراسة، وحين خرج حراً، استأنف الدراسة مرة أخرى مدة عام، حتى لاحقه الاحتلال، ولم يستطع أن يتخرج.
تقول زوجة الأسير حجة" تبقى لسليم 15 ساعة معتمدة حتى يحصل على درجة البكالوريوس، ولكن الاحتلال سلبه هذا الحق، وهذا يعني بأن سليم يدرس منذ فترة التسعينيات".
ورغم هذا الانتهاك تمكن الأسير حجة من دراسة تخصص تأهيل الدعاة، كما وحصل على درجة البكالوريوس في تخصص التاريخ، كما واستثمر الأسير حجة سنوات اعتقاله في الأسر وأصدر كتاب درب الأشواك، والذي تحدث فيه عن تجربة اعتقاله وحياة الأسر التي عاشها، وزملائه الذين أضحوا اليوم بين أسيرٍ وشهيد.
تشير أم عمر إلى أنها قد لا تكون عاشت رفقة زوجها فترة طويلة إلا أنها تعتبره لب حياتها وافتقدت دوره في الأسرة بشكل كبير، رغم أن العائلة تزوره وتتحدث معه ورغم أن روحه موجودة معهم، إلا أن غيابه طال، كثيرة هي اللحظات التي مرت على أم عمر، لحظات مفرحة كانت تود لو أنه حضرها، ولحظات محزنة ودت لو أنه خفف فيها عنها أيضاً.
ترى أم عمر في زوجها مثال الإنسان الملهم والطيب، فهو يتواصل معهم بكل ما يستطيع من قوة، يسأل عن أدق التفاصيل، يشارك على قدر استطاعته، يتابع دراسة طفله حتى من خلف القضبان يسأله عن امتحاناته وعلامته وتحصيل، وقد حث زوجته على إكمال تحصيلها الجامعي وحصلت على درجتي البكالوريوس والماجستير، وتضحك حين تقول بأنه لن يدعها وشأنها حتى تحصل على درجة الدكتوراه.
الأسير حجة، تزوج خلال فترة مطاردته، لم يحضر عرسه، وعاش برهة قصيرة من حياته برفقة زوجته في مدينة نابلس، حتى نشرت صحيفة معاريف خبر اكتشاف خلية كان سليم أحد أعضائها، حينها علمت أم عمر بأن حياتهم الزوجية ستختلف كثيراً، وخاضت برفقته تجارب الانتقال من بيتٍ لآخر، حين كان مطارداً.
تأمل أم عمر أن تكون الحرية قاب قوسين أو أدنى منهم، وأن يخرج زوجها، وتعود العائلة لتعيش معاً من جديد، وأن يعيش عمر برفقة والده ويحضّر ليوم ميلاده بعيداً عن الذكريات والمنغصات الأليمة.