أنهت تحضير طعام الغداء ووضعته على الطاولة وجهزت ثلاثة صحون بانتظار عودة أطفالها من المدرسة، وضعت كأس الماء قرب صحن عمر فهي تعرف أنه يحب شرب الماء مع الطعام، أما علاء ووليد فوضعت لهما العصير كما يفضلان.
دقائق قليلة حتى رن جرس الباب في الوقت المحدد كما كل يوم؛ دخل علاء ووليد وانتظرت قرب الباب وصول عمر، ولكنه لم يأتِ، أخرجت رأسها من الباب ونادت عليه فقد ظنت أنه تأخر في صعود الدرج؛ ولكن علاء قاطع حركاتها حين أخبرها أنه لم يعد معهما أصلا.
قشعريرة سرت في جسدها لسبب لا تعلمه، فعمر ابنها البكر الذي يدرس في الصف التاسع غير معتاد على التأخر ويعود عادة مع شقيقيه إلى المنزل في الوقت المحدد.. بدأت تنظر من نوافذ المنزل عله تأخر مع أصدقائه في الحديث أو اللعب ولكنه لم يعد.
مرت ساعة ونصف وهي لم تتذوق شيئا من الطعام؛ بقيت تنتظر عمر الذي تأخر كثيرا، هاتفت منزل صديقه أيهم فأخبرتها والدته بأنه لم يعد كذلك إلى البيت، شعرت بخوف أكبر، فأين هما الآن؟ صحيح أنهما يحبان لعب الكرة ولكنهما لا يتأخران عادة.
بعد عدة ساعات من القلق والخوف اتصل بها زوجها وأخبرها أنه تلقى اتصالا من مخابرات الاحتلال تبلغه فيه أن يتوجه إلى مقابلتها قرب حاجز قلنديا شمال القدس، وهنا بدأ الخوف يجتاحها بشدة، فهل يعقل أن يكون عمر هو السبب؟ وماذا فعل؟ هل كتب منشورات على صفحته عبر الفيسبوك؟
أسئلة كثيرة دقت رأسها الذي بدأ يشعر بالصداع الشديد، ولم تتمكن يومها من عمل أي شيء كالمعتاد، بل كان الانتظار هو سيد الموقف.
"أين ابنك عمر؟" سأل ضابط المخابرات الصهيونية والده، "لا أعرف.. المفروض أنه في المنزل أو يلعب مع أصدقائه"، أجاب وهو يترقب ردة فعل الضابط، فهو كذلك ظن أن عمر كتب منشورا مقاوما على الفيسبوك ويسألون عنه لأنه طفل صغير.. "حقا لا تعرف؟ أم أنك تدّعي الجهل؟"، كرر الضابط السؤال، ولكن سمير الريماوي لم يعرف ما يجيب، "ابنك لدينا".. قال الضابط وصمت، فاتسعت حدقتا الوالد وعرف أن معنى ذلك أن عمر قد اعتقل، لكن أين وكيف ولماذا بدأت الأسئلة تدق رأسه مجددا.
"ابنك قاتل!" قال الضابط بوحشية واقترب من الريماوي الذي تفاجأ بهذه الجملة ولم يدر ما يقول، "ماذا فعل؟ أين هو؟ ماذا فعلتم به؟" بدأ الذعر يرتابه والشكوك تجتاحه، لأن الذي في ذمة الاحتلال يكون مصيره مجهولا..
"ابنك طعن مستوطنا وقتله وأطلقنا النار عليه"، كانت المفاجأة الضخمة التي حطت على صدر الوالد كالصخرة، تلعثم وتعرق ولم يدر ما يفعل، نهض من كرسيه وصرخ في الضابط "قتلتموه؟ قتلتم طفلا في الرابعة عشرة؟ أين عمر أريد أن أراه أين هو؟".. لكن الضابط بقي صامتا بابتسامة صفراء، وبعدها طلب من الحراس إخراج الوالد بعد انتهاء الجلسة معه.
خرج سمير من المركز متخبطا لا يعرف شيئا، ثم فتح هاتفه المغلق ليجد عشرات الرسائل والمكالمات الفائتة كلها من أقارب له ومن زوجته التي غرقت في دموعها.. وصله اتصال آخر في لحظتها من قريب له يخبره فيه أن عمر نفذ عملية طعن برفقة صديقه أيهم في مجمع تجاري صهيوني شرق رام الله وتم إطلاق النار عليهما واستشهدا.
لم تحمله قدماه فسقط أرضاً وبقي ينادي على عمر حتى أنهى البكاء صوته، عاد إلى منزله منهك القوى ليجد زوجته جالسة تسبح الله وتستغفره، تبكي تارة وتسكت تارة أخرى.. "عمر شهيد؟ لا أصدق! أشعر أنه حي! أريد أن أراه".. قالت وهي تمسح دموعها وتوجه كلامها لزوجها الذي بقي ينظر إلى غرفة عمر وكأنه يشيعه بعينيه.
دقائق قليلة حتى وصل اتصال آخر من ضابط الاحتلال، أخبره فيه أن عمر لم يستشهد وأنه مصاب بجروح خطيرة هو وصديقه.. خر الوالدان ساجدين وتبدد الحزن إلى فرح ولكن حالته الصحية ما زالت مجهولة وقيد القلق والترقب.
السجن المرير
مرت أشهر طويلة لم يتمكن خلالها عمر من الوقوف على قدميه، فالتشخيص كان شللا نصفيا بعد إصابته بعدك رصاصات في الظهر والأرجل واليدين، أما صديقه أيهم فأصيب برصاصات في اليد والبطن والساقين.
في جلسة المحاكمة الأولى أُحضر عمر إليها على كرسي متحرك، فحبس الوالدان دموعهما الغزيرة التي امتزجت مع ذكرياتهما عن طفلهما الذي يحب اللعب والحركة ويكره الجلوس طويلا.
سلسلة محاكمات طويلة خاضها عمر وإهمال طبي متعمد تعرض له، ولكن إرادته كانت فوق كل شيء، كان صلبا في التحقيق ويجلس أمام الضابط دون خوف ويجيب بكلمات ثابتة غير متلعثمة.
في ذلك الحين كانت العائلة تصارع غياب عمر عنها، غرفته وسريره وكتبه وحقيبته كلها محفوظة لا يحركها أحد، ومقعده كذلك حاضر على طاولة الطعام وكأنه يجلس عليه، تغلب الدموع والدته أحيانا وتهزمها هي أحيانا أخرى ولسان حالها يقول الحمد لله فعمر حي يرزق والسجن إلى زوال..
بعد أشهر من الإرادة والقوة تغلب عمر على شلله وأصبح يسير على قدميه، فهو من صغره لا يحب أن يهزمه أحد، وكانت المفاجأة كبيرة للسجان الذي وعده أنه لن يسير على قدميه مجددا.. لينتصر مرة أخرى بقوته.
الحكم على طفل قاصر ليس شيئا غريبا لدى الاحتلال، فأصدر حكما بالسجن لمدة ٣٥ عاما عليه، كان وقعها صعبا على والديه ولكنهما تحملا ذلك فهو على الأقل ليس مؤبد!
عقدت محكمة الاحتلال جلسة استئناف على الحكم، وهناك كانت تأمل والدته أن يخفف الحكم كونه كان قاصرا، ولكن القاضي صدح بالحكم المؤبد على عمر.. مؤبد على طفل كان في الرابعة عشرة من عمره ثم أصيب وتعرض للشلل وقهره وكبر في سجنه حتى بات شابا جامعيا، كل ذلك دون أن تحتضنه والدته لو مرة واحدة.
وكأن التاريخ يعيد نفسه، أطفال في المعتقل يكبلهم حكم المؤبد ولا عالم يرى ولا عالم يسمع.. عمر قوي وصلب ولكن عائلته تفتقده، فإنزال الحكم حقيقة ليس كما توقعه.. أخفت أمه دموعها مجددا وخرجت من قاعة المحكمة وقلبها يصرخ مناديا عمر.. الطفل الثائر!