كان يوما صيفيا جميلا حين جلس الطفل على مقعده يتناول الإفطار؛ كان كل شيء طبيعيا حتى رأى الصغير صديقه يخرج من منزله المجاور ويمسك بيدي والده وهو يرقص فرحاً استعدادا للتوجه إلى المسبح لقضاء يوم كامل فيه.
تغيرت ملامح علي وترك لقمة كانت بيده ثم دخل مسرعا من الشرفة إلى غرفته ورمى بنفسه على سريره ملتقطا صورة لوالده "الافتراضي" كما يستوعب عقله الطفولي..
الأم كانت تراقب كل ذلك بحذر وعلمت تماما أنها واحدة من تلك اللحظات الكثيرة التي يمر بها طفلها بحثا عن والده الذي التصق بالصور فقط؛ ولم يظهر لو مرة واحدة أمام عينيه كي يلاعبه أو يحتضنه أو حتى يناديه إلى المسبح كما كل الأطفال في عمره.
دخلت إلى غرفته وجلست بجانبه ومررت يدها بين خصال شعره وهي تناديه بأسماء محببة تطلقها عليه محاولة لعب دورين معا؛ والدة تخشى عليه من كل شيء ووالد يمازحه ويمرح معه كل حين.
"لماذا أنا من بين كل أصدقائي؟!" أطلق السؤال كالصاعقة على والدته التي أوقفت حركة يدها متفاجئة ولم تعرف من أين تبدأ الإجابة، "أخبريني لماذا أنا؟!" أعاد السؤال عليها وهي ترتب الكلمات في ذهنها؛ فليس كل شيء قد يستوعبه طفل في الرابعة مع حياة نادرة وأحداث قد تبدو خيالية.
"لأنك طفل مميز يا علي.. وسترى ذلك بعد أسابيع قليلة حين يعود والدك وتراه أمامك".. قالت تلك الكلمات وحاولت أن تخفي دمعة سقطت رغما عنها، فهذا الوضع الاستثنائي الذي عاشته كان صعبا عليها أكثر، وكل ما خزنته من صبر وقوة قد ينهار فجأة أمام سؤال طفلها الوحيد الذي لم ير والده إلا خلف أسوار السجن.
هده الحكاية ليست خيالية بل تنبع لدى عشرات العائلات في فلسطين التي تشتاق أبناءها في سجون الاحتلال، فأطفال لم يروا آباءهم وآباء لم ينعموا بدفء عائلاتهم منذ سنوات طوال.. هذا هو السجن وهذا هو قهره.
بداية الحكاية
كان صلاح حسين ابن بلدة بيت دقو شمال غرب القدس شاباً كما بقية شبان عمره؛ يبحث عن فتاة تشاركه حياته وتعينه عليها، ومن خلال أقرباء له تعرف إلى فتاة تدعى شيرين نزال، ومن حديث إلى آخر قرر أن تكون هي شريكة حياته واتفقت عائلاتهما على الخطوبة.
وفي تلك الأثناء اندلعت انتفاضة الأقصى فتأجل الإعلان الرسمي للخطوبة بسبب الأوضاع الراهنة، ثم ارتقى شقيق شيرين شهيداً برصاص الاحتلال ليدخل الحزن قلبها وتؤجل هذه الفرحة التي كانت من المفترض أن تبدأ حياتها بها.
وبعد عدة أشهر قررت العائلتان إعلان الخطوبة أخيرا؛ ولكن صلاح كان يفكر بشيء آخر، فهو لم يقبل الوقوف مكتوف الأيدي أمام ممارسات الاحتلال لينضم إلى صفوف المقاومين وتتم مطاردته لأكثر من أربع سنوات.
منذ البداية عاش الشريكان حياة مختلفة تنغصها يد الاحتلال؛ ولكن حكايتهما لم تنته بعد.. فبعد أربعة أعوام من المطاردة حاصر الجنود بناية كان يتحصن بها صلاح بسلاحه؛ وخاض اشتباكا مسلحا مع الجنود ولكن ذخيرته نفذت فأصيب واعتقل في ركبته وتم اعتقاله.
تحدي الأسر
أسابيع طويلة لم تسمع خلالها العائلة أو شيرين أي خبر عن صلاح، فهو مصاب ويخضع للتحقيق وحالته سيئة، وبعد كل تلك الفترة أخبرهم المحامي أنه بخير وأنه مر بظروف اعتقال وتحقيق سيئة وتعرض للإهمال الطبي ما فاقم من ألم ساقه.
وبعد عدة أشهر أصدر الاحتلال حكمه على صلاح؛ خمسة عشر عاما ونصف كانت صاعقة على عائلته التي انتظرت خروجه من الأسر في أقرب وقت.
هنا وفي هذه المرحلة تحديدا وُضعت شيرين أما خيارين؛ إما الانتظار الطويل أو التخلي، ولكنها كانت واضحة صريحة منذ البداية أنها اختارت صلاح ولن تتراجع، وخضعت حينها لموجة انتقادات وضغوطات مجتمعية بأن مدة الحكم طويلة جدا وأن عمرها سيضيع وهي تنتظر.. لكنها لم تسمح لأي شيء أن يؤثر في قرارها وقالت لهم بالحرف الواحد إما صلاح أو لا أحد.
هذا الموقف الصلب كان حريا أن يسجل وأن لا تبقى شيرين مجرد فتاة تقدم لخطبتها صلاح، فقرر من سجنه أن يعقد قرانه عليها وفعلا تم ذلك، وأصبحا في حكم المتزوجين دون فرح ولا لقاء.
مرت السنوات طويلة ثقيلة، تزوره شيرين ما بين منع أمني وتصريح وتخبره عن أخبارها وعائلته وكل شيء يدور خارج أسوار السجن، ولكن ذلك لم يكن كافيا له، فهو أراد أن يكسر قيد الأسر بطريقة أخرى تفوق قضية عقد الزواج.
فكرة طرقت رأسه وألحت عليه بعد موجة من إنجاب عشرات الأسرى أطفالا عبر النطف المهربة، ورغم أنها فكرة غريبة على شاب لم يتزوج بعد إلا أنه اقتنع بها لمجرد أنها تقهر السجان وتغيظه.
وبعد أسابيع بل أشهر طويلة من إقناع عائلته وشيرين بالفكرة؛ خاض الزوجان التجربة ونجح حمل شيرين بنطفة محررة من داخل الأسر، وفي عام 2015 أنجبت "علي" الذي أضاء حياتها بعد انقطاع النور فيها، وأصبح لها كل شيء..
أربع سنوات عاشها علي مع والدته دون والده الذي غيبه الأسر، كانا يلتقيان عبر الصور وبعض الزيارات المعدودة، فالاحتلال لا يوفر أي فرصة للتنغيص عليهما خاصة بعد انتصار إرادة الحياة.
سنوات عاشها علي كانت مريرة وصعبة بدون والده؛ وحين بدأ يدرك أن الأب لا يعوض بدأ يسأل والدته عن أبيه ولماذا هو بالذات عن بقية الأطفال يعيش هذا الظرف وحده، لترتب الإجابات في ذهنها وتخبره أنه طفل مميز في كل مرة..
ومضت السنوات الخمسة عشر ما بين أمل وألم حتى جاء يوم الحرية، اليوم المنشود الذي سيقابل فيه علي والده وسيحتضنه ويصبح له أب.. ارتدى أجمل ملابسه وتوجه مع أمه إلى معبر الظاهرية جنوب الخليل، وانتظر ساعات تحت الشمس الساطعة حتى جاءت ساعة الغروب ولم يظهر الوالد بعد.
تلقت شيرين اتصالا من شرطة الاحتلال تبلغها فيها أن صلاح أعيد اعتقاله مجددا فور الإفراج عنه، وبعد ساعات أخرى من الانتظار تم إبلاغ محاميه بأن محكمة ستعقد له بعد أيام ما يعني تبديد حلم الحرية.
عادت العائلة بعد طول انتظار إلى منزلها ولكن من غير صلاح؛ عاد علي لينام في سريره مرهقا مكسور القلب.. عاد لينظر في صورة والده ونام دون أن يتحدث بأي كلمة.
ولكن العائلة التي اعتادت أن تسحق الحزن وأن تبني من الصبر قصورا من فرح لم تفقد الأمل، وبعد يومين قبل موعد المحاكمة أخبرها المحامي أنه سيتم الإفراج عن صلاح عبر معبر ترقوميا جنوب الضفة..
كان هذا هو اللقاء المنشود، وكانت تلك اللحظات هي القريبة للحرية، خرج صلاح من بوابة السجن يركض باتجاه حلمه الذي لم يعد سرابا، احتضن علي وقبّله كما تمنى دائما، كانت لحظات ممزوجة المشاعر قوية الموقف لا يمكن تكرارها.
ولكن الاحتلال نغّص هذه اللحظات من جديد، فأعاد اعتقال صلاح لساعات طويلة على حاجز الكونتينر قرب بيت لحم وهو عائد إلى بيته، ثم أفرج عنه في ساعة متأخرة من الليل.
وبعد يومين أقام الزوجان زفافهما ليحضره طفلهما في أغرب حالة زفاف في فلسطين.. ولكن عنوانها الحرية وحب الحياة وتحدي الأسر، ليبصر علي النور مرتان الأولى عند ولادته والثانية عند تحرر والده.