يجلس رفقة صديقيه الأسيرين وتحدق عيناه في الخاتم، يبدو كما لو أنه ترك تفاصيل النقاش معهما منذ دهر، لكنهما لن يعقبا بشيءٍ حول تشتت أفكاره، فمن الطبيعي هناك في عوالم مدافن الأحياء أن يندهش أسيرٌ حين يرى نقشاً عربياً على خاتمٍ عادي يحيله فناً، خاصة وأنه ينحدر من مجتمع يصنع شيئاً من لا شيء، مجتمعٌ من الأسرى يستخدم كل إمكانياته المتاحة تحت بند الحاجة أم الاختراع، لذلك فإن مداركهم للأمور الجديدة أكثر اتساعاً من مداركنا نحن المتنعمين بالحرية، فالاختيارات هناك في الأسر والجماليات محدودة، لا ورود تحول مناظر الحدائق لديهم لمشهدٍ اعتيادي، ولا أشجار زيتون تجعل منظر حباتها منظراً غير مستغرب، لذلك فكل شيءٍ يدخل إلى عالمهم هناك من العالم الخارجي يجلب لهم الدهشة والأمل.
حين فكرت ابنة الأسير القيادي أحمد سعدات، الناشطة صمود سعدات، في نوع "الذبلة" التي ستدخلها لخطيبها الأسير عاصم الكعبي في سجن النقب الصحراوي، بعد خطبتهما، لم تتخذ موقف التفكير الاعتيادي، علمت أنها يجب أن تكون مختلفة، كائناً حياً ينبض بروحه مع خطيبها في الأسر حتى ينال حريته، وشيئاً يستحق الانتظار.
الناشطة صمود سعدات تعلم أن أي شيءٍ يدخل الأسير من ذويه عملة نادرة يرى فيها الحرية ورائحة بلاده، حتى لو كانت قطعة ملابس، وهي تعلم لا بد حجم الصور الشخصية التي منع الاحتلال إدخالها للأسر فقط لأن ذوي الأسير التقطوا فيها منظراً طبيعياً، والأسير بالنسبة لسجانه لا يجب أن يرى هذه المناظر، حين فكرت صمود سعدات في الذبلة التي ستدخلها لعاصم رسمت في ذهنها كل هذه الخيارات.
على الجبهة الأخرى لم يكن الأسير عاصم محمد الكعبي (40عاماً) من سكان مخيم بلاطة، شرق مدينة نابلس، يعلم أن خاتماً سيفتح مدارك السعادة لديه على مصراعيها، فحين وصله خاتم منقوش بعبارة"عاصم بصموده حطم سلاسل قيده" محفورة ومزخرفة قال" لقد استحق هذا الخاتم معركته".
فقط عاصم وصمود يعلمان جيداً تفاصيل الحرب التي خاضها هذا الخاتم على مدار سبعة أشهر، من قسم الأمانات إلى سجن ريمون ثم عوفر وصولاً للنقب ليحط في يد صاحبه، هما فقط يعلمان قصة طيرانه تلك.
تعقب صمود سعدات على القصة، في حديثها لمكتب إعلام الأسرى فتقول" حتى اليوم وبعد وقت من وصول الخاتم ليد عاصم لا زال سعيداً به كما لو أنه وصله الآن، أنا أعلم حجم هذه الأمور في قلب الأسير، وفي فضوله نحو العالم الذي تركه خلفه سنيناً طويلة".
الأسير عاصم الكعبي معتقل منذ تاريخ 24/4/2003، ومحكوم بالسجن مدة 18 عاماً، وقد ارتبط بالنشطة صمود سعدات منتصف العام 2018 المنصرم، ولم يكن فن النقش كما هو حاضرٌ اليوم في زمان عاصم، 16 عاماً في الأسر تجعل في ذهنه وذهن الأسرى من أصحاب الأحكام العالية مدارك قابلة للتوسع والاكتشاف، لكل ما يصلهم من خارج السجون عبر ذويهم.
تقول المحررة شفاء القدسي، شقيقة الأسير محمود القدسي، من سكان مدينة طولكرم، حول مدارك الأسير للعالم الخارجي" إن الصدمة تكون كبيرة للأسرى من أصحاب الأحكام العالية لكل شيءٍ جديد وفد بعد اعتقالهم، والأسرى من الذين اعتقلوا قبل العام 2000 ونالوا حريتهم اليوم يصدمون بكل شيء يرونه، لذلك فهم بحاجة إلى جلسة مطولة قبل اتصالهم بشكل مباشر مع العالم مرة أخرى؛ حتى يتعرفوا على كل مدارك الحياة الجديدة التي تركوها تتسع خلفهم".
الحديث الذي قالته المحررة شفاء القدسي يشير صوب الأسرى حتى من الأحكام التي تعتبر خفيفة إذا ما قورنت مع الأحكام العالية التي يقضيها الأسرى، فخمسة سنوات لأسير ما تجعل بينه وبين أصوات الزحام وحركة السير وضجيج السيارات عداءً ومقتاً على سبيل المثال.
تعود صمود سعدات لتتحدث حول الخاتم الذي أصبح في يد خطيبها اليوم فتقول" لقد استحقت "الذبلة" عنائها، نقلت لعاصم تطور الحياة بعده، وأعطته أملاً بإضافة شيء جديد لحياته، رغم صعوبتها، وقدمت له جمالية تنتظره خارج أسره، وأملاً قادماً".
لسنوات طويلة سنستمر في سماع قصص لأمور مفرحة دخلت السجون وأعطت أثراً مفاجئاً لأسير، وهو الأمر الذي يعكس فظاعة العزل الزماني والمكاني الذي يعيشه الأسرى في مدافن الأحياء، لا زالت ضحكة المحرر زاهر خطاطبة تدوي في سجنٍ ما وفي زمانٍ ما حين كان ينظر لمشبك شعرٍ ذهبي بخرزاتٍ لامعة استله من شعر ابنته الصغيرة "رهف" حين زارته خلف الزجاج السميك، ليحارب به سنوات اعتقاله، لا زالت فرحة الأسرى باستلاف هذا الكائن الغريب منه وتناقله بين أيديهم داخل السجن مخزنة أيضاً في مكان ما.