"بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين، إلى أغلى اثنان في عمري، أبي وأمي، رضا الله ورضاكم، لأهم الأشخاص في حياتي، لأهلي لأخوتي لأخواتي، لأصدقائي، لمعلميني، تذكروني بالأشياء الطيبة، وبالذكر الحسن، أنا طفلٌ صغير، لكنني أعترض لما يحدث في بلادي، يضيق صدري بكل ما يحدث في الوطن، ولن أقف أمام هذا كله منظر المتفرج، لذلك سأخرج وأفعل شيئاً للوطن...سامحوني".
ليس سهلاً أن تنطق شقيقة أسير بهذه الكلمات التي تركها هو وصيةً لعائلته حين خرج دفاعاً عن وطنه، ليس سهلاً أن تتذكرها بعد مرور 17 عاماً، أن تقصها عليك كما لو كانت عبارتها أو الجملة التي تصنفها كمبدأ قديمٍ في أحد دفاتر الذكريات، لكن هذا حدث لشقيقةٍ بقلب أم، تحفظ ليس الوصية فقط، بل التفاصيل والعمر والأحلام والذاكرة، وقبرين في مكانٍ ما في مدينة طولكرم، ينتظران طيف ابنٍ غاب منذ دهر.
16 عاماً من عمر الطفولة
ليلة واحدة سبقت تاريخ 5/2/2002، لاحظت فيها هذه الشقيقة الأم المحررة شفاء القدسي، شقيقة الأسير محمود عدنان أمين القدسي(33عاماً) من سكان مدينة طولكرم، أن روحه متعلقة بشيءٍ حتى اليوم لم تقدر هي على وصفه.
تروي المحررة شفاء القدسي والتي أمضت ست سنوات في الأسر سابقاً، تفاصيل حكاية شقيقها محمود، لمكتب إعلام الأسرى، بدءاً بمشهد الاعتقال، مروراً بحياة الأسر ولقائها به داخل السجون، انتهاءً بالعام الذي يسبق فرحة حريته والتحديات التي يجب أن تتخطاها خلال هذا العام.
تتذكر شفاء القدسي أنها مرت كثيراً على غرفة شقيقها ليلاً قبل التاريخ الذي سبق اعتقاله، وكانت تجده في كل مرة يقرأ القرآن، تاركاً كتبه وواجباته، فتطلب منه أن يعجل في إنهاء دروسه فيفعل، ثم تعود لتتفقده فتجد المصحف مجدداً بين يديه، وتلاحظ بأنه دسَّ ورقةً ما في مصحفه قبل أن يخلد للنوم، لكن الأمر لم يشغل بالها من فوره.
صباحاً توجه الطالب الطفل محمود القدسي لمدرسته، كان في الصف الثالث الإعدادي، لا نعلم تفاصيل ذلك اليوم، نوع الفطور العائلي الأخير الذي تناوله على سبيل المثال، ألوان ثيابه، وطريقة وداع والدته له حراً الوداع الأخير، لكن التفاصيل التي تلحق بهذه الأحداث مخزنة في ذاكرة شقيقته المحررة شفاء وتحفظها صوراً غيبية.
تروي شفاء القدسي مشهد معرفة اعتقاله فتقول" عاد أبي من عمله ليسأل عن محمود، فشقيقي نعرف خطواته، من المدرسة للبيت للقهوة يساعد أبي في عمله، لكن ترتيب حياته الروتيني اختلف يومها، أتذكر أن والدي رحمه الله قال: منذ ساعتين عاد أولاد صفه لبيوتهم فأين هو".
تتابع القدسي"كانت والدتي رحمها الله يومها في زيارة لابن خالتي في نابلس، كان تعرض لإصابة على يد الاحتلال، وذهبت للاطمئنان عليه، وكانت الضفة محاصرة في ذلك الوقت، وأتذكر أنه استغرقها 3 ساعات للعودة من نابلس لطولكرم، بعد معرفتها بخبر اختفاء محمود".
أيضاً لا أحد يعرف تفاصيل ألم والدة محمود ووالده وما مر عليهم من قهر على مدار 3 أيام من اختفائه وعدم معرفة مكانه، لكن شفاء كانت تعرف أن قصاصة تركها محمود في غرفته تحمل سراً ما، تذكرتها وذهبت لتقرأ ما ظنته قصاصة من فورها، لتفاجئ بالكلمات.
مرت تكهنات كثيرة على العائلة لا أخبار عن شهيد ولا أخبار عن نجلهم، حتى مرور 3 أيام علموا فيها أنه جرى اعتقاله لدى الاحتلال، العائلة علمت لاحقاً أن ابنها الهادئ كان يدرس لأشهر طرقاً للتحرير، ساعده في ذلك التزامه في ارتياد المسجد، المكان الذي كان يشكل في وقتٍ ما من حياة الفلسطيني انطلاقة نحو العمل المقاوم والجهاد بلغته الصحيحة والأقوى آنذاك.
تقول شقيقته شفاء القدسي" لقد تعرض لكمين وأطلقت عليه أكثر من 250 رصاصة لم تصبه إحداها بحمد الله، نقل لزنازين الجلمة، وبدأت قصة جديدة معي أنا وهو بشكل خاص".
قبل أن تسرد المحررة القدسي الفصل التالي من حياة شقيقها، أكدت على أن حكماً بالسجن المؤبد المكرر مرتين صدر بحقه، بعد شهرين من التحقيق والتنكيل والضرب لسحب اعترافات، وأكدت أيضاً على أنه مكث في سجن الأشبال في سجن تلموند، قبل أن تتدخل لجنة حقوق الطفل في حكمه ويتم اقتطاعه ليصل ل18 عاماً، أمضى منها 17 حتى الآن، ويدخل اليوم بتاريخ 5/2/2019 عامه الأخير في الأسر.
شيفرة خاصة لشقيقيين
حين انتهى التحقيق مع محمود وخرج من زنازين الجلمة، أعلمته إدارة السجون بضرورة إرجاعه للتحقيق مرة أخرى بأمر من المخابرات، ليبلغوه بأن أحد أفراد عائلته قد اعتقل، تكهن محمود الطفل الكبير آنذاك بأنه لا بد أحد أشقائه أو والده، ليفاجأ بشقيقته شفاء تقف في غرفة وتنظر صوبه.
تقول المحررة شفاء" اعتقلت عقب اعتقال محمود بشهرين تقريباً كان التحقيق معه قد انتهى، مشهد لقائي به كان الأكثر ألماً، كان بعمر ال16 عاماً، وكنت بعمر ال22 عاماً، لقد ركض نحوي واحتضنني وهو يبكي ويتساءل عن سبب اعتقالي هنا، ووجودي في الأسر".
مر وقت طويل قبل أن تصدر محاكم الاحتلال حكماً نهائياً بحق شفاء 6 سنوات، كانت فسحة لها ولشقيقها بطريقة ما، وبوصفٍ نتمناه منصفاً، فما بين سجن هداريم وتيلموند حيث كان يتواجد محمود وشفاء شارع فاصل والقسمين الذين يقطن فيهما كل منهما متقابلان تقريباً، تشاء أقدار لطف الله بهما.
تقول شفاء القدسي" كانت الشيفرة بيني وبينه يا الله، الله أكبر، يصرخ أحدانا بهذه العبارة فيعرف الآخر أنه يريد إبلاغه بشيء، أتذكر أن والدتي زارتني يوماً، وكان من الصعب أن تزورني أنا ومحمود في يوم واحد، علماً أن الاحتلال كان يضع موعد زيارتنا في ذات اليوم قاصداً لإنهاك روحها، يومها أبلغتني بأن أبي أصيب بمرض السرطان، وكان علي أن أبلغ محمود بالأمر، فلم أجد سوى تلك الشيفرة بيننا".
نادت شفاء" يا الله، الله أكبر"، ليعلم محمود أن فرصة لقائه بأبيه ستكون ضئيلة وأن حريته ومرافقته في حياته أصبحت حلماً، كان لشفاء آنذاك الدور الكبير في التخفيف على محمود والأخبار التي تصله تباعاً من خارج الأسر.
تقول شفاء القدسي" كان محمود متعلقاً بأبي كثيراً، يحبه حباً جماً، لا يكاد ينهي دروسه وطعامه حتى يلحق به إلى عمله يساعده، محمود كان فاكهة البيت أصغر أشقائي وكنت أختاً وأماً له، نحن 10 أشقاء وغياب محمود ترك فينا الألم الكبير".
لقاء ثاني
تتذكر شفاء أن 4 سنواتٍ مرت حين أخبرتها إدارة السجن بصورة مفاجئة بأن هناك زيارة لها ولشقيقها، كان يسمح للشقيقين الأسيرين بزيارة بعضهما البعض كل ستة أشهر وحالف شفاء ومحمود الحظ للزيارة.
تصف شفاء الاضطراب الذي أصابها عقب معرفتها بأنها سترى شقيقها خلال ساعة أو أقل، تقول" كان قد سمح حديثاً لنا أن نشتري خضار وندخلها على حسابنا للسجن، وأردت أن أطهو له شيئاً من نَفَس البيت ونَفَس أمي، فسارعت الأسيرات لإعطائي حبة بندورة، أو قطعة دجاج، وكل واحدة تأتي بغرض ما حتى اكتمل الطبق.
قاتلت شفاء ضابطاً لأجل جهدها وجهد الأسيرات ولتلمس فرحةً في وجه شقيقها يومها، فقد أخبرها ضابط الاحتلال بأنه يمنع أن تخذ لشقيقها شيئاً، فهددته بحدوث مجزرة حقيقية في السجن إن لم يصل هذا الطبق لشقيقها، ما اضطر ضابط آخر للتدخل والسماح لها بالدخول بالطبق، تقول" يومها أطعمت محمود بيدي، أردت أن يتذوق نفسي ونفس أمي في الطعام كان ذلك بعد 4 سنوات من آخر لقاء غريب حدث بيننا".
لطف الله في أن انتقلت شفاء من سجن الرملة حيث كانت موجودة إلى تلموند أملاً في أن يخلو السجن من الأسيرات الأمنيات كان لهدف ولقضاء وحكمة أخرى، تستذكر شفاء تلك الأيام فتقول"خدعونا حين نقلونا لتلموند، أخبرونا بأن لا سجينات أمنيات، لكننا فوجئنا بأنهم يأخذوننا إلى مقبرة أحياء تحت الأرض، مهجورة من أيام العثمانيين، معتمة رائحتها خانقة، وحين رفضنا الأمر استبقوا كل خطواتنا وجدنا تخطيط لقمعة جاهزة ومداهمة.
تتابع شفاء حديثها بحشرجة وتقول"رشونا بالماء البارد بالغاز وتعرضنا للضرب، وقسم من الأسيرات جرى عزله وآخر بقي في ذات القسم، فقط لكي نرضخ، وحين خرجت بقية الأسيرات من العزل قررنا تحويل جهنم التي فرضوها علينا لجنة، فاستثمرنا كل شيء في السجن، الفحم للرسم مثلاً، فقد كان هناك أسيرات خريجات من كلية الفنون رسمن على جدران السجن، وحولناه لمكان نظيف قابل للحياة، ونجحنا في الانتصار على أسالبيهم وانتهاكاتهم ضدنا".
محمود الطفل والثلاثيني
تصف شفاء القدسي شخصية شقيقها حين كان حراً بينهم، تقول" كان ذكياً في دروسه، هادئٍ جداً، الكل يحبونه جيرانه أصحابه وكل من يعرفه، وفجأة أصبح رهن مدافن الأحياء، اليوم تنقل محمود بين عدة سجون، تواجد في وقتٍ ما في كل من سجن تيلموند، هداريم، جلبوع، نفحة، وآخرها النقب، أتم دراسة التوجيهي والتحق بالجامعة".
تضيف القدسي" تمكن من حفظ كتاب الله، لديه شهادات في علم التجويد وفي علوم أخرى، صوته في تلاوة القرآن مميز، وهو بالمناسبة طباخ السجن، يتقاتل الأسرى عليه حين نقله من سجن لآخر ليطهو لهم، وقد علم نفسه بنفسه كل شيء، فلطالما كان محمود شغوفاً محباً للتفاصيل والتعلم ومعرفة كل شيء".
لم تكن سنوات أسر محمود بالهينة فبعد مرور ثلاث سنوات على اعتقاله تمكن ذووه من زيارته، كانت أول مرة يرى فيها محمود والده بعد إصابته بمرض السرطان وربما الأخيرة، 17 سنة بشهادة كل الأسرى من بداية اعتقاله حتى اليوم يعتبرونه أخاً يحبونه ويحترموه.
البرمجة بلغة الأسرى
اليوم تتقطع روح هناء وهي تقول" أنا أعرف أوضاع الأسر، أي أسير ينال حريته يحتاج لوقت ليتأقلم مع الواقع الذي تركه خلفه، محمود سيحتاج لحديث مطول حين ينال حريته بعد الاعتقال، كل شيء اختلف، المبادئ التي كان يقاتل لأجلها حتى مدينته طولكرم تغيرت، البيت تغير تماماً، محمود سيعود لبيت فارغ لا أب فيه ولا أم، كلا والدي توفيا في غربة اعتقاله، توفي أبي بمرض السرطان قبل 10 سنوات، وتوفيت والدتي قبل 5 سنوات".
حين تزور شفاء شقيقها في سجنه يحدثها بأحلامه كثيراً برغبته في تكوين عائلة بيت، والأمر الأول على رأس قائمة أعماله بعد الحرية لقاء والديه، ستأخذه شفاء للمقبرة حيث دفن والداه، وسيلتقي بهما بعد غيابٍ طويل، بطريقته.
كغيره من الأسرى ترى شفاء القدسي أن محمود سيحتاج لما يشبه إعادة التأهيل ليتأقلم مع حياته بعد الحرية، فحتى الكثير من أصدقائه ومعارفه ذهبوا شهداء، جيل آخر توافد للحياة بعده، وأجيال رحلوا، دخل ببرائته للأسر وسيخرج لغابة.