لا تسكبي الحبر حراً، وتشبثي بتلك الكلمات الموجعة، لا تتركي حروفي تنهمر من تلك السطور فكل جزء منك يحمل فاجعة.. ولكل سطرٍ من سطورك حكاية، حكايةٌ من الجسد الممزّق، فلم تعد جغرافية الجسد تعني بالسهول أو الجبال أو الحقول أو الغلال.. فمذ خيَّم القهر على تلابيب أوطاني، وداس الموت أحلام الضحايا، وتوحّد الغربان ضد فضيلتي، وأصبح جسدي ساحة مفتوحة للضباع وللضياع وأسراب الحقد تقاطرت من كل جنس، حينها وددت أن أُلقي بنفسي داخل صحرائي الشاسعة، أحتضن الضحايا من زقاق الجوع، وأدفن ضحكة الثكالى في أحشاء الجرح، فجرحي عميق يتسع لكل ألوان الفجيعة.. يتسع للهاربين إلى بحار الموت.. يتسع لآلاف الخيام اللاهثة خلف أكياس المئونة إلى دموع الأمهات الحائرات.. يهربن في كل اتجاه نحو أطياف الأمان، ويقفن على حدود الانكسار، ليحمين أطفالهن من الهلاك أو الحصار، وإلى أنين عجائزٍ قد خطَّ الدهر على وجوههن خرائط الزمن العتيق.
يتسع لكل القنابل والحصار، لكل صاروخ جميل يُكتب على جانبه made in Israel ويتم طلائه بكل ألوان العذاب، يتسع لكل الطائرات روسية أمريكية إسرائيلية وأوروبية، ولكل طائرة العربية التي تزيد من الجرح مشكورة كي يتسع لكل الأهوال والبطش والتنكيل.. لكل بساطير العالم، ولكل أساطير العالم حتى أبناء الشياطين يتسع جسدي للقياهم.
ولكن ألا أيها الورق المسجّى .. ما عادت ذاكرتي تحتمل دموع أزهاري الذبيحة المترامية على رمال الحرب من المجهول إلى المجهول، ما عادت ذاكرتي تتسع للمآذن المتآكلة على ما تبقى من رماد القصف.. ما عاد باستطاعتها أن تعد الصفعات من كل نطيحة ومتردية ومن كل رديٍّ ومن كل ذئب ملتصق في نعال المارين على جراحي.
مهلا أيتها الأوراق واعلمي أن حروفي كتبت من شرايين النازفين على مذابح الحرية، اعلم أن حروفي أثقل من أن تصنع أوراق دفاتري، وبكل حرف أطنان من المتفجرات، وتحت كل حرف تجد مقبرة جماعية, وبكل حرف تختبئ عيون المذعورين، وبكل حرف وبكل كلمة وبكل جملة تزدادين فُقدا، وتجرين الأحرف جرّا وفوق أعناقي تغادر، هذا قدري يا أوراقي أن تحفري تاريخ مأساتي بين ضلوعك الممزقة، فلا تسكبي الحبر قهرا، ولا تتركي حروفي تنهمر من تلك السطور.