في سجن الدامون، في بقعةٍ جغرافيةٍ مجتزأةٍ من التفكير والحياة، تبحر الأسيرة بنان جمال أبو الهيجا (40 عاماً) من طولكرم في تفاصيل حياةٍ أُجبرت على تركها خلفها. تتذكر أطفالها وتتساءل: كيف يتدبّرون شؤونهم؟ من يطعمهم؟ من يحرص على دروسهم؟
تعرف تمام المعرفة أن والدهم يتابع كل تفاصيل حياتهم، وأن خالتهم ترعاهم وتحرص على قلوبهم، لكنه قلب الأم الذي لا يعرف التوقف عن التفكير فيما كانت ستفعله هي لو كانت حاضرة. تضع بنان ملاحظاتٍ في رأسها لترويها لمحاميها عند الزيارة: ستطلب منه أن يحذر أبناءها من خطر المدفأة في برد الشتاء القادم، وأن يتابعوا دراستهم ولا يهملوا واجباتهم. تدون بنان تساؤلاتٍ كثيرة حول بيتها، فيما تتألم العائلة لشوقها الذي ينهش قلبها على أطفالها.
بنان ليست مجرد اسم، بل هي سيرةٌ تختصر صفاتٍ لا تسعها القواميس كلها: أمٌ لأربعة أطفال (تقى، جنى، حمزة، غنى)، محامية تحب مهنتها، رفيقة مخلصة لوالدتها التي رحلت دون أن تتمكّن من وداعها، شقيقة أسرى، ابنة أسير، شقيقة شهيد، ابنة عائلة مناضلة قدّمت للوطن الغالي والنفيس وما زالت، ابنة جنين التي تقارع المحتل كل يوم، زوجة محبة وشقيقة طيبة القلب. واليوم تُضاف إلى هذه الصفات صفة "أسيرة" تصارع قيد الاعتقال الإداري، وابنةٌ تمزّقت عائلتها بين السجون، حتى بقيت شقيقتها وحيدة تحمل همّ العائلة كلها.
في 7/5/2025 اعتُقلت بنان على حاجز "جبارة" في طولكرم أثناء عودتها من المستشفى الاستشاري في رام الله حيث رافقت والدتها المريضة شهرًا كاملاً خضعَت خلاله لعدة عمليات خطيرة. هرعت بنان للعودة إلى منزلها بعد أن بلغها خبر مرض ابنتها، لكن الاحتلال عاجلها بالاعتقال. وبعد خمسة أيام فقط، توفيت والدتها بعد صراع طويل مع المرض، دون أن تتمكن من رؤية أبنائها، أو ابنتها بنان، أو زوجها الشيخ جمال أبو الهيجا، كما حُرمت العائلة من حقها في وداعها الأخير.
صدر بحق الأسيرة بنان أبو الهيجا قرار اعتقال إداري لمدة أربعة أشهر، جُدّد مرة أخرى للمدة نفسها، ولا تعلم العائلة اليوم سقفًا لهذه التمديدات، فالأوجاع مضاعفة. فالأب الأسير جمال عبد السلام أبو الهيجا (66 عاماً) يقضي حكمًا بالمؤبد تسع مرات إضافة إلى 20 عامًا أخرى منذ اعتقاله عام 2002، وهو يقبع حاليًا في سجن نفحة بعد تنقلات طويلة بين السجون. أما ابنها عبد السلام (42 عاماً) فيواجه اعتقالًا إداريًا في سجن النقب منذ 10/8/2022، والابن الثاني عاصم (39 عاماً) يقبع في سجن ريمون منذ 19/6/2023 بملف إداري أيضًا، فيما يعاني عماد (38 عاماً) من اعتقال جديد منذ تسعة أشهر فقط بعد أن تنفس الحرية أربعة أشهر لا غير. وفقدت العائلة كذلك نجلها حمزة الذي ارتقى شهيدًا بعمر 22 عامًا عام 2014.
المحامية الأسيرة بنان وجدت نفسها في قلب عائلةٍ مناضلةٍ قدّمت الكثير للوطن. واليوم لا يعرف أفراد العائلة أخبار بعضهم إلا عبر المحامي، إذ يعتمد الأبناء في السجون على زياراته للاطمئنان على والدهم وأختهم، كما تنتظر بنان منه أخبار أشقائها. يبقى وجعها مضاعفًا وهي تترك خلفها عائلتها وأطفالها؛ إذ تفتقد ابنتها تقى بشكلٍ خاص أمومةً كانت أكثر ما تحتاجها في تجهيزها الصباحي للمدرسة، في الأحضان والقبلات ووداع الصباح، كما افتقد إخوتها دفء حياةٍ طبيعية مع والدتهم.
بنان صاحبة شخصية قوية وفذة، لكنها أم أيضًا. تعرضت خلال اعتقالها في سجن الدامون –كما باقي الأسيرات– للقمع والتنكيل. وصفت لمحاميها مطلع أغسطس السجن وغرفه بأنها "زنازين عزلٍ منفردة"، مؤكدة أن الرطوبة أكلت أجساد الأسيرات، وأن الدامون يشهد قمعًا متكررًا بالغاز. واليوم، ما بين شوق أبنائها وصراعها مع غياب أشقائها، تتناثر الكلمات وتضيع الحكايات، في ظل اعتقالٍ إداريٍّ بلا لائحة اتهام، لا لشيء سوى لأنها ابنة عائلة مناضلة يعرفها كل حر وشريف.