حين تطفأ الشمس خلف القضبان : حكايات الأسى من سجون لا ترحم
مكتب إعلام الأسرى

في عالم يفيض بالضوء، هناك بقعة على هذه الأرض قررت أن تطفئ الشمس عمدا.

خلف جدران رمادية، مسنودة ببوابات حديدية ثقيلة، تعيش آلاف الأرواح في عتمة لا تعرف صباحا، وفي صمت لا يكسره سوى صوت الأصفاد وهي تغلق، أو صرخة مكتومة تسقط بين الزنازين.

هم ليسوا مجرد أرقام على لوائح الإحصاء، ولا ملفات مكدسة على طاولات المؤسسات الحقوقية.

هم آباء لم يحتضنوا أبناءهم منذ سنوات، أمهات ذبلت ملامحهن في الانتظار، أطفال توقفت أحلامهم عند حدود جدار بارد.

قلوب تنبض مثل قلوبنا، وأرواح تشعر كما نشعر، لكنهم يواجهون كل يوم محاولة مدروسة لسحق إنسانيتهم وإفراغهم من معنى الحياة.

تخيل أن يلقى بك في زنزانة مكتظة، الهواء فيها ثقيل ورطب، يتسلل إلى صدرك محملا برائحة المرض واليأس.

طعامك إن سمي طعاما، يلقى إليك كفضلات، لا يسد الجوع ، يذكرك يوميا بأنك بلا قيمة في أعين سجانك.

وحتى مسكن الألم البسيط، "حبة دواء" لصداع أو التهاب، تتحول إلى أداة عقاب يحجب عنك عمداً.

في سجن "عوفر"، لا يخشى الأسرى العتمة بقدر ما يخشون المرض؛ لأن ألما بسيطا في الأسنان قد يصبح، بفعل الإهمال، التهابا يهدد الحياة.

وفي جحيم "جلبوع"، يقول أحد الأسرى: "بعد أن يبللوا جسدي بالماء البارد حتى ترتجف عظامي، أشعر بكل شحنة كهربائية كأنها ألف سكين تمزق روحي قطعة قطعة". الصعق الكهربائي هنا  لعبة يومية في يد السجان. الأجساد ترتجف بعنف كدمى فقدت خيوطها، ثم تهوي على أرض الزنزانة الباردة، لتسقط معها آخر ذرة من الكرامة.

وفي سجن "مجدو"، طفل في العاشرة يجلس في ركن الزنزانة، يحك جلده المتقرح حتى يسيل الدم، ويهمس: "ماما، بطني يؤلمني". الجرب يلتهم جسده الصغير، والجوع يأكل ما تبقى من طفولته. كيف يحلم بكرة أو لعبة، وهو لا يستطيع أن يحلم حتى بوجبة كاملة أو ليلة نوم بلا ألم؟ هنا، البراءة جريمة، والطفولة تهمة.

أما في صحراء "النقب"، فلهيب الشمس ليس الخطر الأكبر؛ هناك أجساد تحترق من أعقاب السجائر التي تطفأ عليها عمدا، وتخترق برصاص مطاطي يترك عليها خريطة من الكدمات الزرقاء والسوداء. حتى الصرخات تخنق في الحناجر خوفا من عقاب أشد.

وفي "الدامون"، تتحول المرأة الأسيرة إلى هدف مباشر لتحطيم روحها، إذ يمنع عنها لقاء طفلها لسنوات، حتى تكاد ملامحه تتلاشى من ذاكرتها. ملابسها تُستَخدم كأداة للإذلال، والتهديد بالاغتصاب يصبح جزءا من يومها. هنا، لا يعاقبون الجسد فقط، وإنما يعتدون على أقدس ما في روح المرأة.

هذه ليست أرقاما جافة؛ هم 10,800 إنسان، بينهم 450 طفلا و49 امرأة. لكل رقم منهم قصة، ولكل قصة عالم من الألم لا يراه العالم إلا إذا قرر أن يفتح عينيه.

في الوقت الذي نتناول فيه وجباتنا الدافئة، هناك من يقتسم لقمة متعفنة مع حشرات زنزانته.

وفي الوقت الذي نغفو فيه في أسرتنا المريحة، هناك من يحلم بليلة واحدة دون خوف.

السجون هنا لا تسجن الأجساد فقط، تحاول أن تسجن الأمل نفسه. لكن ما لم يفهمه السجان أن الأمل، وإن حشر في زنزانة ضيقة، سيظل يبحث عن فجوة في الجدار لينفذ منها النور.

واليوم، رسالتهم إلينا واحدة:

كونوا صوتنا الذي يخترق جدران الصمت. كونوا الصرخة التي لا يستطيعون إطلاقها. لأن العالم، إن صمت، سيتحول إلى شريك في هذه الجريمة.

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020