في مشهدٍ اختزل حجم الوجع الذي يسكن زنازين الاحتلال، ظهر الصحفي الأسير محمد عرب في آخر جلسة محاكمة مكبل اليدين، مرتديا ملابس شتوية ثقيلة رغم حرارة الطقس، وهزال جسده يخبر عن معاناة لا تنقلها الكاميرات ولا تسعها كلمات التقارير.
محمد الذي اختطفته قوات الاحتلال من مجمع الشفاء الطبي في غزة ظل قيد الإخفاء القسري لأكثر من مئة يوم، انقطعت خلالها أخباره عن العالم، ولم يتمكن أحد من الاطمئنان عليه، حتى نجح المحامي خالد محاجنة في زيارته للمرة الأولى، كاشفا بعضا من فصول الغياب والوجع.
ورغم أنه لم توجّه له أي تهمة، قررت محكمة بئر السبع العسكرية رفض الإفراج عنه، لتُبقيه رهن الاعتقال الإداري إلى أجل غير معلوم في انتهاك واضح لكل القوانين الدولية ومواثيق حقوق الإنسان.
حين سمح له بالكلام خلال جلسة المحكمة، لم يسأل عن نفسه، لم يشكُ ما حل به، بل قال بصوت خافت ينزف أبوة وقلقا: "أهلي بخير؟ مرتي وأولادي عايشين؟"… كانت كلماته القليلة مرآة لما يحمله في قلبه من وجع الفقد والبعد، وتكشف أي جرح ينزف داخل هذا الجسد الهزيل.
محمد عرب لم يكن يوما بعيدا عن الوجع الفلسطيني، كان صوتا له. عمل لسنوات في مجال الصحافة والإعلام وغطى بعدسته وقلمه معاناة الجرحى والمرضى في غزة، وكان من أوائل الصحفيين الذين نقلوا مأساة القصف على المستشفيات ووثق جرائم الاحتلال بحق المدنيين داخل مجمع الشفاء الطبي. تميز بحس إنساني عال، وبحضور دائم في الميدان، لا يهاب الخطر، ولا يبحث عن شهرة وإنما عن إيصال الحقيقة.
اليوم يجد محمد نفسه داخل الزنزانة، معزولا عن العالم، لكنه ما زال يحمل في عينيه ذات الشعلة، وما زالت صورته الأخيرة في المحكمة تروي حكاية صحفي اختار أن يكون مع الناس، فكان ثمن صدقه أن يسلب حريته.
محمد عرب وجه من وجوه الحقيقة المعذبة خلف القضبان.