عندما تتحوّلُ الزنازينُ إلى مسارحٍ للانتقامِ المُمنهجِ. هنا، خلفَ القضبانِ المُغلقةِ، يُجسّدُ الاحتلالُ أبشعَ أساليب التعذيب بحق أسرى غزةَ، الذينَ خطفهم الجيشُ بعدَ السابعِ من أكتوبرَ، يصبحونَ أرقاماً في سجلِّ التعذيبِ اليوميِّ: يُجردونَ من أسمائِهم، يُحشرونَ في أقفاصٍ معدنيةٍ، ويُحاكمونَ بلا محاكمةٍ. قصصُهم، التي تتدفقُ من تحتَ الأبوابِ المؤصدة، تحكي كيفَ يتحوّلُ الجسدُ الفلسطينيُّ إلى ساحةٍ لـ "انتقامِ المُستعمِرِ".. وكيفَ تُختَزلُ الكرامةُ إلى مجردِ ذريعةٍ للبقاءِ على قيدِ الألمِ.
التعذيب حتى الموت .. أدوات إبادة بطيئة للأسرى
أعلنت هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني عن استشهاد المعتقل الفلسطيني علي عاشور علي البطش ( 62 عاماً) من غزة، في سجون الاحتلال الإسرائيلي في تاريخ 21-2-2025 في مستشفى (سوروكا)، بعد أيام على نقله من سجن (النقب) إلى المستشفى، اعتقل في تاريخ 25-12-2023، متزوج وله ستة أبناء. ليضاف إلى سجل الشهداء الذين ارتقوا نتيجة للجرائم الممنهجة التي تُمارسها منظومة السجون بشكل غير مسبوق منذ تاريخ حرب الإبادة، لتشكل الحرب على الأسرى وجها آخر من أوجه الإبادة.
بهذا الاستشهاد يرتفع عدد الشهداء بين صفوف الأسرى والمعتقلين المعلومة هوياتهم بعد حرب الإبادة إلى (٦٢) شهيداً، وهم فقط المعلومة هوياتهم من بينهم على الأقل (40) من غزة، وهذا العدد هو الأعلى تاريخياً، لتُشكّل هذه المرحلة هي المرحلة الأكثر دموية في تاريخ الحركة الأسيرة منذ عام 1967، وبذلك يرتفع عدد شهداء الحركة الأسيرة المعلومة هوياتهم منذ عام 1967 إلى (299) علماً أن هناك عشرات الشهداء من معتقلي غزة رهن الإخفاء القسري، كما ويرتفع عدد الشهداء الأسرى المحتجزة جثامينهم إلى (71) من بينهم (60) منذ بدء الحرب.
وأشار مكتب إعلام الأسرى إلى أن البطش هو رابع الأسرى الذين ارتقوا خلال أيام قليلة، بعد استشهاد كل من:
الأسير الشهيد مصعب هاني هنية (35 عاماً) من غزة، في سجون الاحتلال الإسرائيلي بتاريخ 5 كانون الثاني/يناير 2025، بعد اعتقاله من مدينة حمد في 3 آذار/مارس 2024. وبحسب عائلته، لم يكن هنية يعاني من أي مشاكل صحية قبل اعتقاله، وهو أب لطفلٍ وحيد يبلغ تسع سنوات.
والأسير الشهيد رأفت عدنان أبو فنونة( ٣٤) عاما من غزة في سجون الاحتلال، وهو معتقل منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، بجانب شقيقه شادي، وقد أصيب خلال اعتقاله وطوال هذه المدة لم يفصح الاحتلال عن تفاصيل بشأن مصيره أو السماح بزيارته، وهو متزوج ولديه طفل.
والأسير الشهيد المعتقل الإداري خالد محمود عبدالله( ٤٠) عاما من مخيم جنين، اعتقل بتاريخ ٩/ ١١/ ٢٠٢٣، يقبع في سجن مجدو متزوج وأب لأربعة أطفال، وله شقيقان معتقلان إداريا وهما شادي وإياد عبدالله.
وحذر إعلام الأسرى من تصاعد جرائم الاحتلال بحق الأسرى، مؤكدًا أن ما يجري في السجون هو سياسة ممنهجة تهدف إلى الإبادة الصامتة من خلال الإهمال الطبي، التعذيب، والتجويع، مما يشكل تهديدًا مباشرًا لحياة آلاف الأسرى، لا سيما الجرحى وكبار السن، في ظل تواطؤ الاحتلال على جميع المستويات لإخفاء جرائمه.
شهادات الأسرى .. فاشية حقيقية وتجريد من الإنسانية
كشفت شهاداتٌ مخيفةٌ من داخل سجون الاحتلال عن استخدام إدارة السجون الإسرائيلية كلاباً بوليسيةً مدربةً لترهيب المعتقلين واعتداءهم جسدياً، حيثُ أُطلقت هذه الكلاب بشكلٍ متعمدٍ على هنية وغيره من أسرى غزة المُحتجزين منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، ما تسبب في إصاباتٍ بالغةٍ بينهم، في مشهدٍ يُجسّد تحويل السجون إلى فضاءٍ للعنف.
كما كشف الناجون عن تفاصيل تعذيب الأسير الفلسطيني مصعب هنية حتى وفاته، حيث أكّد شهود عيان أن قوات السجن قامت بإدخال (عصا خشبية في مؤخرته) بشكل متكرر ومتعمّد على مدار أيام، مما تسبّب في نزيفٍ حادٍّ وآلامٍ مبرحةٍ أدت إلى وفاته. وأشارت الشهادات إلى أن هذه الممارسة لم تكن استثناءً، بل جزءاً من سياسةٍ ممنهجةٍ لتحطيم كرامة الأسرى وإخضاعهم عبرَ انتهاك جسدهم بشكلٍ وحشيّ.
وأكّد الشهود أن هذه الانتهاكات تُنفَّذ بإشرافٍ مباشرٍ من قادة السجون، كأداةٍ عقابيةٍ جماعيةٍ ضد الأسرى الفلسطينيين، خاصةً من قطاع غزة، في انتهاكٍ صارخٍ للمواد (1) و(2) من اتفاقية مناهضة التعذيب الأممية، والمادة (13) من اتفاقية جنيف الثالثة الخاصة بمعاملة الأسرى.
كما أكّد أحد الأسرى المحررين – فضّل عدم الكشف عن اسمه – أن ثمانيةَ سجّانين هاجموه معاً، مما تسبّب في كسورٍ شديدة بقفصه الصدري، تاركاً إياه عاجزاً عن الحركة لأشهر، دون تلقّي أيّ علاجٍ طبيٍّ رغم خطورة إصابته.
ولم تكن هذه الحالة معزولة، بل جزءاً من نهجٍ منهجيٍّ يُوثَّق في سجون الاحتلال، حيث يستذكر المعتقل السابق محمد الشوامرة حادثة استشهاد الأسير ثائر أبو عصب في سجن "النقب" بتشرين الثاني/نوفمبر 2023، بعد أنْ تعرّض لـضربٍ مبرحٍ حتى الموت من السجّانين، لمجرّد سؤاله عن "إمكانية وقف إطلاق النار في غزة". وبحسب الشوامرة، تُركت جثة أبو عصب مُلقاةً على أرض الزنزانة لأكثر من ساعتين قبل نقلها، في مشهدٍ يُجسّد استهانةً ممنهجةً بحقّ الحياة.
التفاصيل التي يكشفها الأسرى المحررون لا تُثبت فحسب استمرارَ آلةِ التعذيب الإسرائيلية، بل تُبرز أيضاً تواطؤاً دولياً في السماح بتحويل السجون إلى مسارحَ لـجرائم حربٍ ، تُمارس تحت شعاراتٍ أمنيةٍ واهية.
إدانات دولية لمنهجية إسرائيل في قتل الأسرى
طالبت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالتعذيب، أليس جيل إدواردز، إسرائيل بالتحقيق في قضايا تعذيب وغيرها من الانتهاكات، من بينها الاعتداءات الجنسية، بحق معتقلين فلسطينيين. وقالت إدوارد: "كيفية معاملتنا للآخرين في أوقات الأزمات تعد دليلا على مدى إيماننا بحقوق الإنسان"، مشددة على أنه "لا ظروف، مهما كانت استثنائية، يمكنها تبرير التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية".
كما أعرب الاتحاد الأوروبي عن "قلق عميق" تجاه تقارير انتهاكات حقوقية بحق معتقلين فلسطينيين، مُشيراً إلى مزاعم تعذيب واعتداءات جنسية في منشأة "سدي تيمان" العسكرية الإسرائيلية وسجون أخرى. ودعا المتحدث باسمه بيتر ستانو إسرائيلَ إلى فتح سجونها أمام مراقبين حقوقيين دوليين، خاصةً بعد انتشار فيديو يُوثِّق اعتداءاتٍ جنسيةً على معتقلين مُقيَّدي الأيدي. وأكَّد الاتحاد ضرورة التزام إسرائيل بالقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، بغض النظر عن التهم الموجهة للمعتقلين.