مُبعَدًا حرًّا شامخًا بسواعدِ غزّة ومقاوميها، وقبل أن تَحُطَّ قدمُه أرضَ الحرية من على كرسيّه في الحافلة التي ستقله إلى حقبةٍ جديدةٍ من حياته الحرّة ومستقبله، وقف الأسير القائد المقدسي محمود عيسى (57 عامًا)، من بلدة عناتا، عميدُ الأسرى المعزولين وأحدُ أبرز عُمَد الحركة الأسيرة، ليؤدي التحيةَ لأهل غزّة كبيرِهم وصغيرِهم، بعينَيه اللتين غارتا في وجهه من طولِ سنواتِ العذاب والعزل والإهانة، وبجسدِه النحيل الذي أنهكته سياسةُ التعذيب والتجويع.
تدارك الأسير محمود عيسى خطاه المثقلةَ بالألم والأوجاع، ووجّه لأهل غزّة كلمةً مفعمةً بالعِرفان والشكر قال فيها: "الحمد لله الذي أحسن بنا إذ أخرجنا من السجون، الحمد لله الذي نجّانا من القوم الظالمين، وأنزلنا منزلًا مباركًا وهو خير المنزلين، والصلاة على رسولنا الأمين وآله وصحبه أجمعين.
وبعد، أقف أوّلًا لأؤدّي التحية لغزّة الأبيّة وأهلها الكرام، وأحيّي قادتها وفتيانها. لله دَرّك يا غزّة، تبنين لأمّتنا ببيوتك المهدّمة وأشلاء أطفالك وشيوخك صرحَ العِزّة".
وأضاف القائد المحرَّر: "غزّة انتصرت بصمود أبنائها على كلّ أعدائها الذين اجتمعوا عليها ورموها بقوسٍ واحد، وأمّةٌ تصبر على كلّ محنة لا يمكن أن تُهزَم. لغزّة في أعناقنا يدٌ سبقت، ودَينٌ مستحقّ. سنبقى مدينين لها، وستبقى نبضَ قلوبِنا وخفْقَ شرايينِنا".
نجحت المقاومةُ في صفقة طوفان الأقصى أن تهدي الأسير محمود عيسى حرّيته بعد سنواتٍ عجاف. وهو أحد مؤسّسي الوحدة المعروفة بـ"101" التابعة لكتائب القسّام، والتي تأسست بهدف تحرير الأسرى الفلسطينيين عبر خطف جنودٍ إسرائيليين. وكان عيسى قائدَها إلى جانب المحرَّرين ماجد أبو قطيش وموسى عكاري ومحمود عطوان، الذين سبقوه إلى الحرية وكانوا اليوم في استقباله. وهكذا اكتملت صورةُ الرفاق.
ذاق المحرَّر محمود عيسى ويلاتٍ وعذاباتٍ لا يمكن حصرُها في أسطر، لكنه قبل ذلك قدّم نموذجًا نضاليًّا يشهد له القاصي والداني. ففي عام 1992 خطف الرقيبَ أول نسيم توليدانو لتبديله آنذاك بالشيخ أحمد ياسين، وفي مارس 1993 نفّذ عملية دهسٍ للجندي نعوم كولر وقتل شرطيَّين إسرائيليَّين في الخضيرة، وفي مايو من العام نفسه أطلق النار على عقيدٍ في جيش الاحتلال وأصابه بجراحٍ خطيرة، وفي يونيو 1993 تمكّن الاحتلال من اعتقاله بعد مطاردةٍ طويلة.
حُكم على عيسى بالسجن المؤبَّد ثلاث مرات إضافةً إلى 46 عامًا، وتعرّض لعزلٍ انفرادي استمر 13 عامًا، حتى لُقّب بـ"عميد الأسرى المعزولين"، وكان الهدف من عزله كسر رمزيته وإرهاقه نفسيًا.
حتى وهو في السجون، لم يتوقف عن إرهاق المحتل؛ ففي عام 1996 حفر نفقًا بطول 10 أمتار في محاولةٍ لنيل الحرية، وفي عام 2006 أضاف الاحتلال إلى حكمه ستّ سنواتٍ بعد اتهامه بتجنيد مجموعةٍ من داخل السجن لتنفيذ عملياتٍ ضد الاحتلال.
بعد ثلاثة عقودٍ كاملة من العذاب والتنكيل، كان أشدّها ما ذاقه بعد حرب السابع من أكتوبر، نال القائد محمود عيسى حرّيته، لكن الاحتلال حرمه من وطنه بعد أن قرّر إبعاده إلى مصر.
لم تكن والدتُه ولا والدُه بانتظاره؛ فقد حُرم من وداع والده الذي توفّي بعد عامٍ من اعتقاله، ومن وداع والدته التي رحلت عام 2021.
قاوم محمود عيسى المحتلَّ بعلمه كما قاومه بعمله؛ نشأ في كنف عائلةٍ محبّةٍ للوطن، درس في كلية الشريعة بجامعة القدس – أبو ديس، وعمل مديرًا لمكتب صحيفة صوت الحق والحرية قبل أن ينخرط في صفوف المقاومة.
أصدر خلال سنوات اعتقاله مؤلفاتٍ متنوّعة في الدين والسياسة والفكر والمجتمع، بلغ عددها سبعة كتب، ولم تكن قضبان السجون يومًا حاجزًا بينه وبين فكره النيّر.
في مصر، اجتمع رفقاءُ الوحدة الخاصة "101"، وأصرّوا على التقاط صورةٍ لهم، صامتةٍ في شكلها، صارخةٍ في مضمونها، تختزل إنجازات المقاومة وعطاء غزّة.
الحلم الذي طال انتظاره تحقق؛ زملاءُ المقاومة، إخوةُ السلاح والحرية والنضال، جمعتهم صورةٌ واحدةٌ صنعتها سواعدُ المقاومين وصمودُ غزّة.
هزم القائدُ الفذ محمود عيسى سنواتِ السجن الطويلة، وتبدّدت وعودُ الشاباك بأنّه "لن يرى الحرية"، فإذا به اليوم يقف شامخًا حرًّا، يُطلّ على وطنه بعينٍ تدينُ لأهل غزّة بكلّ ذرةِ هواءٍ تمرُّ في جسده.