وكأن عداد السنوات وحده لم يكن كافياً ليشرح معاناته، وكأن عدد السجون التي تنقل فيها أو مرات العقاب الذي تعرض له أو أكوام من العذابات التي اجتاحته لم تكن كافية كلها ليسهل علينا فهم ما مر به.
الجبل الفلسطيني الصخري وليد دقة لم يعد رقما فحسب في سجون الظلم الصهيوني، بل هو حكاية شعب بأكمله، عايش كل مراحل السجن المريرة وقاسى محطاتها الناهشة للعمر والأمل والحياة.
وليد دقة الذي آثر أن يكسر صمت السنين وقهرها بالعلم والكتابة والدراسة؛ بات الآن مفكّراً يتعرض لاغتيال بطيء، اغتيال معنوي قبل أن يكون جسديا، أي أن حرمانه من العلاج طيلة هذه السنين جعلته واحدا من أولئك المفكرين الذين تغتالهم يد أعدائهم بطرق مختلفة.
منذ سنوات لا تقل عن الستة عانى دقة من أعراض مختلفة، والمرض في السجن مختلف تماما، فتضاف إلى ثقله أثقال من المعاناة، حيث لا علاج ولا متابعة ولا مستشفى ولا رحمة ولا شفقة!
تبين بعد فحوصات متأخرة أنه يعاني من نوع نادر من السرطان، لم يكن مستغربا بتاتاً، فبيئة السجن الذي نهش من عمره قرابة الأربعين عاما من شأنها أن تنخر عظمه وتحول جسده إلى خريطة مرض متكاملة كما مئات الأسرى الذين يقاسون ويلات المرض والسجن والقيود الضيقة.
أمل رغم الألم
وعلى ناصية الحلم تقف زوجته الصابرة التي تحدت قرار السجان وارتبطت بوليد قبل ثلاثين عاما رغم علمها أنه محكوم بالسجن المؤبد الذي يقيد الفرح والأمل.
بعد سنوات من ارتباطهما وجدا أن الفرح الذي صنعاه رغما عن أنف السجان لا يكفي بالارتباط وحده، فقررا إنجاب طفل من النطف المحررة، وكان ذلك، وجاءت ميلاد الطفلة الرقيقة الجميلة إلى هذا العالم، عالم يشوهه الاحتلال بسجن أبيها منذ سنوات طوال.
واليوم تقف الطفلة البريئة في الفعاليات والمسيرات حاملة صورة والدها، وتنتظر عند أبواب السجن حتى يسمح لها السجان بالدخول لرؤيته، لا تدري ماذا فعلت كي لا تكون مثل بقية الأطفال بين والديها يداعبانها ويلعبان معها الكرة في ساحة المنزل ويعلمانها ركوب الدراجة لأول مرة.
سناء الأم والزوجة التي تحملت أعباء فظيعة ما زالت تحفر فب قلبها مكانا للأمل، لا تستسلم بسهولة لكل شيء يحاصرها، بل تقوى لمجرد فكرة أن يعود وليد لها ولابنتها يوماً ما سالما معافى.
تقول متعالية على الحزن والدمع:" وليد هو كل شيء بالنسبة لي ولميلاد، هو ابتسامتنا وأملنا الذي لا يموت، نرى فيه عالمنا حين نزوره ونواسي بإرادته معنوياتنا، وليد هو كل شيء ونريده بيننا قريبا".
الإهمال الطبي الذي يعانيه هذا المفكر الصلب والقامة الوطنية يمارس بصورة متعمدة، فرغم حالته الصحية التي لا تحتمل تأخيرا ولا تباطؤا إلا أن الاحتلال نقله من مستشفى "برزيلاي" مؤخرا إلى سجن الرملة، هناك حيث مقبرة الأسرى المرضى وصوت أنينهم الذي يخترق جدران السجن.
تؤكد سناء أن زوجها يصارع المرض بكل قوته، ولكنه ما زال يعاني من تدهور صحي يستوجب على الأقل إبقاءه في المستشفى أو زيارته بين الحين والآخر، وهذا الأمر الذي يمنعه عنه الاحتلال.
وتضيف:" نشعر أن الأطباء لا يعطوننا صورة كافية واضحة عن حالته رغم أننا بحاجة لمعرفة ما يعانيه تماما، نحاول دوما البقاء على اتصال مع المحامين لمعرفة تطورات حالته، ولكننا نأمل أن ينتهي هذا الكابوس قريبا وأن يعود وليد الصامد الذي نعرفه مشافى معافى".