السجن عصيٌ على الوصفِ ويهرب من كل تعريف...
بقلم الأسير / وسيم مليطات

يمثّل السجن مشروع إعدام للثائر الفلسطيني، بكل ما خطط له ليكون أدوات كسر، وتغريب، واحتواء، وتحصين لروح المقاوم الفلسطيني، الرافض للمشروع الاستعماري لإسرائيل، ويطمح أصحاب معسكرات الاعتقال، والسجون، وأصحاب السياط أن يوئدوا الوطنية الفلسطينية في هذه الكهوف المعتبة والباردة من خلال طمس ممثليها المناضلين...

يمثل السجن مشروع استلاب لإنسانية الإنسان الفلسطيني ومحاولة جادة لتجريد الأسير الفلسطيني من آدميّته والتعامل معه كحيوان مفترس، أو بأفضل الحالات أرقام مجردة بلا أي قيمة إنسانية.

يمثل السجن البديل اللائق لحبل المشانق من خلال افتراس المناضلين والبطش بهم، وتحصينهم ونفيهم من الحياة بتغييبهم بالأحكام المؤبدة...

يمثل السجن القسوة بحدودها الأقصى، ويفترض بمن يريد أن يبقى على قيد السجن أن يتحمل الكم المتراكم من الآلام والمعاناة والكم الهائل من العناء والمشقة، وأن يتجشم عبء العيش دونما حرية، أهم صفة مميزة لإنسانية الإنسان...

يمثل السجن عسف الإنسان بأبشع صوره الشيطانية ضد أخيه الإنسان.

يمثل السكين  و الساديّة بأفظع تجسيداتها ضد النفس والروح الإنسانية وهو جحيم الأرض ولا شك مآل يتنافى مع طبيعة الإنسان وغريزته لا لحرية...

إن ما تقدم محاولة لوصف ما لا يوصف لأن السجن مازال بكل لغات الأرض عصيٌ على كل الوصف ويهرب من كل تعريف... إلى أن جاء الوغد بن غفير وقدم وصفاً مدهشاً ونهاية البساطة والبلاغة حين وصف السجن الإسرائيلي بالمتنزه، وفي موضع آخر عرّف السجن بالبندق، وأثبت متوعداً الأسرى بالإزلال والإهانات والحرمان، وعبّر في غير موقع عن الاحتقار الشديد الذي يكنّه للأسرى الفلسطينيين وتهجم تارةً بالشتيمة وأخرى بالوعيد معتبراً أن مهمته الأولى في الوزارة ستكون بوضع حدٍ لحياة الأسرى الرغيدة، وبتغليظ قيودهم، وبإلغاء الحياة الرسمية داخل المعتقلات والسجون وشطب التمثيل العام للأسرى، والوقف الكلي لوجبات الطعام التي يعدها الأسرى بأنفسهم، وإنهاء ما سمّاه الاحتفالات بالساحات، وتقليص ساعات الشمس ووقف الامتيازات التي تُمكّن الأسرى من شراء ما أسماه كماليات الحياة، وقد بدأ في تطبيق سياسته بإجراء وقت وصول الخبز الطازج للأسرى، وتحديد ساعتين فقط للاستحمام، وزيادة حدة ووتيرة التفتيشات والقهر، إضافة إلى تكفله بتقديم مشاريع وقوانين للكنيست الإسرائيلي؛ سعياً وراء إقرار قانون يتيح بإعدام الأسرى الفلسطينيين، وطرد عائلاتهم خارج حدود الوطن، إضافة إلى قانون منع الأسرى من العلاج.

إن بوسع بن غفير أن يتحدث باستخفاف عن رفاهية العيش بالسجون الإسرائيلية، وهو الذي لم يرى بحياته أياً من القبور التي يسمّيها فنادق، لم يرى زنازين دولته المغلقة والضيقة والباردة، والغارقة بالضوء الأصفر الكئيب، وجدرانها الشاحبة الشاهدة الجائعة على جوع الأسرى وانطفاء الإحساس بالوجود الشعور الكريه بالاختناق.

لم يرى السجن آلة القمع الرهيبة التي تمزق أوتار القلب، وتعطب خلايا العقل، وتسلب إنسانية  الإنسان وتسرق عمره بصمتٍ أخرس لا يتعب أبداً.

السجون تُحكم بالقهر والتعذيب مليئة بالرؤوس المدماة والأجساد المرقعة بالجراح، والأنفس المتعبة والأرواح المعذبة... 

السجون ممتلئة بالتفاصيل القاسية، والجدران التي تطفح بالدم، وحلكة الليل الصامتة، وأبوابٌ تحتجز أنين وآلام الإنسان، لم يشهد العزل الانفرادي شبكية الاعدام بكل ما هو إنساني وسياسة انتقامية تعسّفية تطال في تعذيبها الروح والنفس وحتى الخلايا العصبية، ماذا يعرف عن المعابر شديدة القذارة، والمكتظة، وعن انحطاط وبربرية دولته الديموقراطية، التي شيّدت أقفاصاً حديدية تزدحم بالأسرى دون أية مراعاة لأبسط مقومات الحياة الإنسانية...

ماذا يعرف عن رحلة الموت بالوحوش الحديدية التي تنقل الأسرى، وهم موثوقو بالأصفاد الحديدية...

كيف لابن غفير أن يحس بالوجع الإنساني وبالذعر الذي ينتاب الأطفال والنساء عند دسّهم بجحيم السجون التي تفترسهم دون أية مراعاة لأوضاعهم الإنسانية الخاصة...

ماذا يعرف عن سياسة الإهمال الطبي المتعمّد وعن الأمراض التي تغزو أجساد الأسرى دون أدنى شعوراً بالمسؤولية؟

ابن غفير لا يرى مقبرة الإعدام النفسي والاجتماعي وكل أساليب وأنظمة وقوانين دولته الديموقراطية المتجسدة بالقضاء المعادي والمحاكم المتجبرة والظالمة والشاباك الذئاب المفترسة والجيش الدموي الذي يعيث بالجسد الفلسطيني قتلاً وموتاً والحكومة المتخمة بالتطرف والعداء والصحافة الصفراء التحريضية التي تنضح حقداً وكراهية، وأجهزة الشرطة وإدارة السجون، كوسائل لقهر إرادة الأسرى وإذلالهم وسحق إنسانيتهم وجعل حياتهم بلا معنى... 

لن يكلف خاطره بالتفكير بما يجول في فؤاد من أمضى أكثر من أربعة عقود متواصلة في غياهب العتمة والقسوة، ولن يكلف نفسه ولو لمرة أن ينظر للفلسطينيين باعتبارهم مساوين لأقرنائهم الإسرائيليين وأن لهم ذات الحق في الهواء والماء والشمس والعيش الكريم وبحلاوة الحياة الحرة...

ماذا يمكننا أن ننتظر من دولة تعاقب الموتى وتمارس ساديتها باحتجاز جثامين الشهداء والأسرى في المقابر الجماعية وبثلاجات الموتى...

إن إسرائيل دولة جدران وسجون وأسلاك شائكة عملت على خنق الفلسطينيين وقتلهم وزجّهم بالسجون وإذا بها تحاصر ذاتها بجدرانها وتعيش الخوف والجزع الدائم والتطرف والعنصرية...

إن وصول بن غفير لهذه المكانة من النظام السياسي الإسرائيلي والمكانة الرفيعة في الحكومة الإسرائيلية بتقليده منصب وزيراً للأمن الداخلي بصلاحيات موسّعة هو انعكاس ما وصلت إليه إسرائيل من بربرية وفاشية، ومن تقديس للموت، ودلالة على فقدان المجتمع الإسرائيلي إحساسه الإنساني، وتعطّشه لدماء الفلسطينيين وقتلهم، وما الاستطلاع الأخير التي ذكرته صحيفة هآرتس الذي أيد فيه المجتمع الإسرائيلي بأغلبية 71% بإعدام الأسرى ما هو إلا خير دليل على فاشية المجتمع الإسرائيلي...

ابن غفير لا يعرف أيضاً الإمكانيات التي تكمن نائمة في أرواح الأسرى، وأن الكراهية الشديدة وطَرَفه اليميني المتطرف والمتعجرف، تؤجج غضب الأسرى المضطهدين...

بن غفير لا يعلم أن أحداً لا يمكنه أن يهين الروح الفلسطينية المليئة بالعز والكبرياء، وأن بإمكانه وبمقدوره أن يستخدم كل الأساليب لإيذائنا، و حتى قتلنا لكنه عليه أن يعلم أننا لسنا مخلوقات مستفهمة ولا دمى عاجزة، ولا نقبل المساس بحقوقنا وبكرامتنا الإنسانية والوطنية، وأننا سنقاتل أنواع المذلات والخنوع، التي يتوعدنا بها، وسنقابل إجراءه وفاشيته باستبسال منقطع النظير وسنحافظ على شرفنا وعلى اسمنا ولن نقبل بالتفريط بالكرامة الإنسانية وأن اسمه بات بالنسبة لنا ولشعبنا كالكبريت، وإذا كان لا بدّ من نار فلتحرق الجميع...

إن تحريض الإسرائيلي المجنون والفاشي بن غفير على الأسرى الفلسطينيين والتي يحاول فيه تشويه الفلسطيني المناضل، ووسمه بالإرهابي والمخرب والمجرم، لن يجعلنا نعبأ بما يقوله أعداؤنا بحقنا، ولن يغير من حقيقة أن الأسرى الفلسطينيين مرآة تعكس طموحات وتطلعات شعبنا الذي يقاتل في سبيل الحرية والحياة الشريفة والنزيهة الخالية من الإعدام وأحكامه الظالمة وأحقاده الدفينة

إن تفوق إسرائيل المادي وقدرتها المدهشة في صناعة الموت وبناء السجون للفلسطينيين، مَن يجعلها تتفوق علينا إنسانياً ومعنوياً؟ وأن امتلاك إسرائيل وتطويرها لأدوات المراقبة والسيطرة الحديثة لا يمكنها أن تصل إلى القوى الجاثمة في نفوسنا وصدورنا في فكرة الحياة والحرية.

لا يمكن للمحتل أن يكون حراً ولا يمكنه الادعاء بالإنسانية وهو يصادر حقوق الإنسان بشعب آخر برمته

بين كل الأعداء وبين كل الخصوم هناك محددات يتم مراعاتها من جميع الأطراف والخروج الكامل عن هذه المحددات ثم لأي طرف يستدعي الخروج الموازي من الطرف الآخر...

لسنا بحاجة إلى أي نوع من المقدمات أو حتى الذكاء لنقول أننا على أعتاب مرحلة جديدة وأننا قطعنا طريق وهْم السلام لآخر سنتمترات وأننا في نهاية الطريق التي اختلطت علينا فيها   ترجمة المشروع الصهيوني وأهدافه الإحلالية، وتهنا فيها بين الحقيقة والوهم، وأن الثابت أن عدونا خرج عن طريق السلام وعن جادة العقل منذ أمدٍ بعيد...

وجدير بنا أن نتذكر دوماً الحقيقة القائلة بأن محكوم على الذين لا يتعلمون من التاريخ أن يكرروه 

إن أعدائنا كثر ومصائب شعبنا عديدة والمتربصين بحقوقنا ليسوا أوفياء، ومن البديهي أن ازدياد الأعداء وازدياد التحديات يزيد من واجباتنا ومسؤولياتنا الوطنية ويحثنا على رفع منسوب التحدي  وإظهار الصلابة الوطنية التي تزيد ألقاً في أوقات الخطر.

رقم2

على ضوء هذه التحديات واستجابة نابعة من الفهم الدقيق والوعي من قبل الأسرى من كافة التنظيمات لطبيعة المرحلة وصعوبتها، فقد انتظمت جميع الفصائل تحت سقف ما عُرف بلجنة الطوارئ الوطنية العليا، التي قادت العمل النضالي وحركات العصيان والتمرد، ضد إدارة السجون الاحتلالية منذ أيلول عام 2021، عقب عملية نفق الحرية حتى الآن، هذه اللجنة التي انبثقت من رحم المعاناة، ومن رحم الوحدة، وفي خضم واقع مجزّأ ومترهّل، جاءت تعبيراً عن نضج لدى شريحة واسعة من الأسرى التي سئمت من العمل الفئوي والحزبي المنفرد، والذي لم يفضي إلى نتائج تُذكر، حضرت هذه اللجنة؛ لتعبر بشكل واقعي وطموح عن الإمكانيات لدى الأسرى الفلسطينيين إذا ما اتحدوا ورصّوا صفوفهم، واستُدعيت هذه اللجنة لتمثل الأرواح المتمردة والتواقة للعمل الجماعي والمنظم، ولتكون صدى صوت الأسرى الذي ينشد الحرية، جسدت لجنة الطوارئ وحدة الأسرى على اختلاف انتماءاتهم الحزبية، وعكست وحدتهم في خندق المواجهة، على أساس وحدة التمثيل ووحدة البرامج النضالية ووحدة الأهداف والوسائل النضالية والوسائل النضالية...

استطاعت لجنة الطوارئ الوطنية في عملها، أن تقفز على الفروقات فيما بين التنظيمات، وأن تروّض الخلافات لصالح إدارة الصراع، وأن تمثل الجبهة الداخلية لدى الأسرى في مواجهة الغلوّ والتوحّش اليميني ضد الأسرى، وأن تخوض صراع الإرادات بعزيمة وإصرار، ما بين إرادة الأسرى المجبولة بالصبر، والثبات، والإيمان، وإرادة بن غفير العنصرية والفاشية...

لقد انتصرت إرادة الأسرى الفلسطينيين المقاتلة بعد ثمانية وثلاثين يوماً من العصيان على قوانين السجن، وبعد خوض ممثلي لجنة الطوارئ للإضراب، وقبل يومين من انضمام غالبية الأسرى لقادتهم في الإضراب، والذي كان في الأول من رمضان، وبعد مفاوضات طويلة وصعبة، استطاع الأسرى وفي الساعات الأخيرة، فرض إرادتهم الصلبة، وعزيمتهم العنيدة، على ممثلي مصلحة السجون، ومرجعياتها الأمنية والسياسية، حيث تراجعوا عن كل الإجراءات العقابية التي اتخذها ابن غفير، وقدّموا ضمانات للأسرى بعدم المساس بحقوقهم، إضافة إلى تحصيل مكتسبات جديدة لجموع الأسرى...

لقد تُوّج عصيان الأسرى وتمردهم وإضرابهم الذي كانوا على مشارف الدخول فيه تحت شعار بركان الحرية أو الشهادة والذي تضمن لأول مرة أبعاداً سياسية، تُوّج بانتصار غالي على قلوب الأسرى، خاصة بأنه جاء في أصعب الظروف وأحلكها، على شعبنا وأسرانا، جراء استعار احقاد اللهيب الإسرائيلي في وصول الفاشيين الجدد في إسرائيل إلى الحكم، ولا شك بأن الأسرى في العامين المنصرمين استطاعوا أن يقدموا نموذجاً مضيء في أوقاتٍ غاية في الصعوبة، يعمُّ فيها الإحباط والتجزئة، ويتراجع فيها العمل الجماعي وينكفئ الأمل...

لقد أنتج الأسرى إطاراً جامعاً، تفوق على كل التحديات التي يفرضها واقع الأسر، هذا الإطار عبّر في غير مرة عن مكامن القوة والحيوية في هذا الاتّحاد، وأظهر ما لدى الأسرى من القدرة على التنظيم، والانضباط، والجدية، واستعدادهم العالي للتضحية والإيثار...

إنه نموذج الأسرى المتّحد والمشتبك والذي يستحق الوقوف عنده مطولاً لغرض الاستفادة...

فالكل مدعو لأنْ يسلط الأضواء على هذه التجربة النضالية الفذّة، التي تضافرت فيها كل الجهود دون إبقاء أو إلغاء لأحد، والتي كان قاعدتها الذهبية الوحدة الوطنية، والجدية، والاستعداد العالي للتضحية، ولابتكار الوسائل النضالية، واختيار التواقيت المناسبة لاستخدام الوسائل النضالية واستغلال الفرص، واستثمار كل الطاقات الكامنة، وتفجيرها في المعركة...

في صراع الإرادات، انتصرت إرادة الأسرى الفلسطينيين المقاتلين، وفرضوا على أعدائهم التراجع، وخلقوا حالة ردع إذا جاز التعبير لدى أعدائهم بأن محاولات المساس بحقوق وكرامات الأسرى الفلسطينيين دائماً ما تستوجب ردّ فعلٍ هذه المرة منظمٍ وموحّد.

وأخيراً، سيستمر الأسرى الفلسطينييِن في كفاحهم، وحلمهم، وصلواتهم؛ من أجل الحرية، أقدَس القيم، وستبقى حناجرهم تصرخ: حرية... حرية.

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020