لقاء بعد غياب (إلى عمي الحبيب "إبراهيم حامد")
كان مُرتبِكًا.
يبحثُ عني بعد قهر الغياب، يسأل إن كنتُ في موقع الهوى أو أن الهوى قد رماني، يتحرك مُتقلِّبًا بين صفحات الكتب، يُداري نفسه بالكلمات الحائرة.
يغزوه الشّيب، وانحناءة غريبة في أعلى ظهره، يمشي كالعجوز الذي خطّ الزمن فيه القصائد والمتون، وتنصهر بقايا مفاصله، تذوي وتذوب، فيه من الألم ما فيه، قسوة الأيام أخذت وقفته المعتدلة، عرجةً في رجله اليُمنى، يسير مع الزمن بصعوبة، يقضي وقته مُتقلِّبًا بين القِراءة والكتابة، طاقة متشبّعة بالتحدي، لا تكسره النوائب، عناد ما بعده عناد، كسفينة الصحراء تغزو الرمال دون نهاية.
ما زال يبحث، وأنا أنتظر منذ عشرين عامًا، زمانٌ يجمعنا في تلاحم مع القدر.
تركته مودّعًا، واقفًا في أحد المواقع التي تحصن فيها للمقاومة، خندقٌ مخفيٌّ بين ثنايا تاريخ بلادنا المجيد، وداع كأنه اللقاء الأخير.
سألني: إلى أين؟
أجبت: إلى مدينة القمر، سأكون فيها إلى أن ينقضي الليل، أو الهدوء الذي يجلب الصباحات الجميلة، لتعود رام الله إلى فتنتها الأبدية دون احتلال أو بُغاث القوم فيها.
مضى على ذلك اليوم عقدين كاملين، كأنهما الدهر في عيني، صغير يلعب لا يدري متى يبدأ وإلى أين سينتهي!
والاشتباك مستمرًا على حاله بين أحياء المدينة، الأمس كما هو اليوم، أقف أمامه وكلّي شَوق يغمرني إليه، فقد سرى عهد اللُّجاجة وانقضى، ومرّ علينا الموت عديدًا، لكننا لم نكن من أصحابه، ونحن أبناؤه!
لا تقف متسمّرًا بين زلّات الحروف، أو ملهوفًا بالآهات والألم، فأنا اليوم أمامك كما في الأمس.
أنتصب بِطولي، أمتشق نفسي وإليه أنحني، أمسك يديه، أقبلهما ثم أعانقه مطوّلًا.
يبكي بصمت! ككل المريدين على عتبه الوجود!
وأنا أستنشق ما استطعت من عبق روحه الوثّابة، أذوب وأنا بحضنه، أتنقّل يمينًا ويسارًا وتغمرني كل المعاني الغريبة!
الحُب في بلدي والكره ينتصب، والشرق يجذبني والغرب يقتلني!
وأنا ومَن حولي للأقصى نرتحل، يا قارئي فلتعلم، للنصر نقترب.
لحظات مسروقة بحق من السجّان، أيام ستة، ليلها ونهارها معه في سباق مع النهاية!
أروي شوقي بالنظر إليه، والوقت ينقضي، فلا أدري متى اللقاء القادم إن كان هناك لقاء!
مع الرحيل.
لا أرغب بالانفصال عنه، لماذا هذا الجسد يعذّب من جديد؟
لكن حان الوقت،
ينعق السجّان كما الغرابيب السود، كأنه انتزاع الوجد من جسدي، أو الفقد الذي أغرق فيه من جديد؛ لأعود بعد زمن إلى قدر الله مع الغربة في وطني.
لكن إليك كل الشوق والحُب، حتى يكتمل النصر مع الفجر القريب.