حياة السجن كلها عذاب، من لحظة الاعتقال والاعتداء على البيت بكل ما فيه من حجرٍ أو بشر، حتى التحقيق والإهانات والشبح والتعذيب، مرورًا بالنقل والإرهاق والتفتيش المهين، وكثيرًا ما يتمنى الأسير الموت، وحتى أن يومًا رأيتُ أسيرًا قد نال الأسر منه ما نال، يقف على شباك زنزانته ينادي ملك الموت بأعلى صوته، أن تعال خذني ودعني أستريح.
ثم يأتي بين ثنايا الموت وحياة السجن المرض؛ ليهدم في نفس الأسير كل معنى جميل، فلم يعد يقوى على مواجهة سجانه بجسدٍ هزيل، ولم يعد يقوى على خدمة إخوانه، بل صار عالةً كما يظن عليهم يتمنى الموت في كل حين، إذا نادى المنادي إلى الإضراب أجابوه: "لا أنت من المرضى معفي من الإضراب بقرار تنظيمي"، وإذا تم توزيع الطعام قالوا: "لا تأكل فأنت مريض يجب أن تأكل طعامًا بلا ملح، ولا فلفل، وغير مقلي، ولا مشوي، ولا بهار عليه، ودون أي دهن، يعني إنتَ عارف إنتَ مريض".
أنا مريض أبلغوني بالسرطان، وبدأتُ رحلة العذاب بعد العذاب، وكأن السجن لا يكفي، ونظرات الشفقة تترى ترمقني من بعيد ومن قريب، وأكثر ما كان يزعجني تلك التصريحات النارية التي يتشدق بها القادة من كل ألوان الطيف، يصرخون صباح مساء بعد أن وصلهم خبر مرضي، أنهم يحمِّلون الاحتلال مسؤولية حياتي، وأنهم إذا استُشهِدتُ فلن يمر ذلك دون عقاب...
ولكن هل أنا الأول الذي دخل سجل المرضى وبات مشروع شهادة ؟!! ألم يصلكم الخبر أنّ الثلاجات ملأى بجثث الشهداء ؟!! ألم تكلمكم جثامين السايح وبارود وأبو وعر والزبيدي وعويسات وغيرهم كثير تصرخ فيكم أين الضمير ؟
ثم وصلتُ المستشفى وأبلغوني أنني في النزع الأخير، وروحي تناجي ربها، وترجو الرحمةَ من ربٍ رحيم، وقلبي يطلبُ نظرةَ وداعٍ لأمي التي دفنت ولدها الأول قبل حين، وتركتْ الأربعة الآخرين في قبضة الأسر اللعين، ولكن النازيُّ يأبى إلا أن يكون هو صاحب الوداع الأخير، تنظرُ عيناي فلا ترى إلا عينَيْ سجانٍ قد كرهتُه منذ أن وطىء بقدميه ثرى وطني الحزين، وأغمضتُ عينَيْ وما لاح بين جفني إلا صورة الأقصى، وصوت الأذان، وهمستُ في نفسي سلمتَ يا وطني فداك الروح والقلب الأسير.
سلامٌ على روحكَ أخي ناصر الشهيد