"فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً"
كم جرحاً أسعفت، وكم قلباً يا ناصر أثلجت في صباك، وشبابك؟!
كم قلباً سيتحرك اليوم من أجلك؟ آلآن يا قلوب!؟ لم يكن ناصر يحتاج القلوب الحزينة، ولا العيون الدامعة، ناصر كان يحتاج سواعدكم، أتُراها كانت مغلولة؟ كان يحتاج لعقولكم، كان يحتاج أضعف الإيمان لحناجركم، أتُراه عندما تلاشى صوته، وأنهكه الداء، كان يقول: "إن رحل صوتي ما بترحل حناجركم"، كم سيقال فيك يا ناصر نثراً، أو شعراً، ومدحاً، وتمجيداً؟
أتراه يكفينا الآن؟
أتراه يكفي أمك التي انتظرت شهوراً طويلة، أن ينبري بطل من هذه الأمة؛ ليحررك إلى حضنها، وتلفظ أنفاسك الأخيرة على صدرها، هكذا كانت تقول، لم يكن سقفها أعلى من ذلك، وتمرُّ الأيام ثقيلة على أم ناصر؛ لتقول على الأقل أن يكون له قبر، ما أعظمكِ يا أم ناصر! وما أصغر من قصَّر في ناصر!
آهٍ يا ناصر! كم أثرت فيَّ هواجس الأورام التي تغزو أجسادنا بصمتٍ، ولا نكتشفها إلا بعد أن تعلن عن نفسها، ولسان حالها يقول: لم يعد يجدي معي الحرب، لقد خسرتم الجولة.
آهٍ يا ناصر كم مرة خضعت للتنويم الكامل، ولتصحو من تأثير التخدير تنطق باسم أمك، واسم أخيك الشهيد، ولا يكون بجانبك إلا كارهيك، وقتلة الحياة، وكأنِّي بحالي في يومٍ ما، أصحو ألفظ أسماء والديَّ اللذان ارتحلا عن هذه الدنيا، بعد انتظار عقود من الزمن.
آهٍ يا ناصر، ويا لهف قلب أمك الصابرة المؤمنة، وهي لم تمسح رأسك، ولم تضع قبلتها على جبينك مودّعةً إياك، إلى لقاءٍ كما تفعل الأمهات.
لم تستطع تطلق زغرودتها المطعَّمة بالعزة، وكثير من الوجع، وأنت تغادر بيتها للمرة الأخيرة في هذه الدنيا، وكأني بحالي يا ناصر، لن أوقع ما أكتب باسمي حتى لا أحزن قلوب أحبابي.
لن تذهب غداً بعد الفجر أمك إلى القبر وتنتظر شروق الشمس لتقول لك كلمات لا تعرفها إلا أنت، فترسل دعواتها وكلماتها لك، وأنت هناك ترقد في برادٍ ما، في مكانٍ ما، في فلسطين، فيما يسمى كيانٍ ما، فتصل الدعوات لتدثرك الرحمات، فقد اعتدنا أن يغادرنا الآباء والأمهات، ونجتهد لهم بالدعاء، فيا لعظمة حظِّك، فتدعو لك الأم الصابرة، وهي التي الجنة تحت أقدامها.
لقد كنتَ محظوظا في حياتك الدنيا، وفي حياتك الأخرى.
يا ناصر عرفتك وأنا صبيّا بالسماع، ومشاهدةً في محاكم العدوّ، ومقاتلاً في الشارع، وصابراً في السجن.
لا أقول لك وداعاً، ولكن إلى لقاء في حياة أبدية نفوز بها إن شاء الله، وإلى ذلك الوقت أصل تحياتي للشهيد أخيك عبد المنعم، وقل له يا أخي: إخواني، ورفاقي، رفاق البندقية، لم ينقذوني من أمراضي، لم يحرموا عدوي من التشفي برحيلي وأنا مقيد، أخبر عبد المنعم، أن إخوانك يا عبد قد تحرروا منذ أكثر من عقد، ولم يفلحوا بإنقاذي، بلغ عبد المنعم أننا مشتاقون.
"وما تدري نفس بأي أرض تموت"
وإلى اللقاء يا ناصر في رضا الرحمن.