كان يوم الثامنة عشر من ديسمبر عام 2005 م، يوماً لا يمكن لي أن أنساه فقد أبلغني الشاويش المسؤول عن الزيارات أن أحضِّر نفسي للزيارة بعد انقطاع طويل ودون سابق إنذار، فقد مضى على اعتقالي ثلاثة أعوام ونصف العام ولم أرى والدي فيها إلا مرة واحدة، حيث كنتُ محروماً من الزيارات من قِبل قوات الاحتلال كإجراء عقابي يُمارس بحق الأسرى الفلسطينيين، ولكن يا ترى من أتى لزيارتي؟ سألتُ نفسي هذا السؤال عشرات المرات وأنا أتجهَّز للزيارة أهي أمي أهو أبي أهي أختي والأكيد أنهم ليسوا إخوتي فأحدهما في السجن والثاني مطارد للاحتلال، إذاً أكيد هي أختي ولكني... مشتاق لأبي فهو الصديقُ والحبيبُ والرَّجلُ العنيدُ مع عدوه، الحنونُ مع أبنائِه، الصادق في مشاعرِه، الساعي على رزقِ أهلِه، الصابر رغم اعتقالِ أبنائِه الثلاثة، وإصابتِهم من قِبل الاحتلال وهدمِ بيته، أيُّ جبلٍ هذا الذي هُدِمَ بيته الذي يؤويه ولا يملك غيره ثم يقول لولده: فداكَ يا ولدي المهم أنك بخير.
تجهَّزت للزيارةِ ثم أخذت شيئاً من مقتنيات السجن يشبه العطر اسماً وكتبت عليه إهداء إلى بابا أردت أن أرسله مع أختي التي حَسَمت أمرها أنها هي من أتت لزيارتي كي تُصِل هديتي لوالدي علَّها تخفف عنه شيئاً من ألمِ الفراق، وما أن وصلتُ إلى الزيارة حتى كانت المفاجأة، إنه والدي يقف شامخاً مبتسماً خلف الزجاج الصامت ينظر إليّ يضع على رأسه كوفية فلسطينية جميلة يتَّقي بها برد كانون وقد زادته هيبةً ووقاراً.
أبي حبيبي كيف أتيت؟ وهل أتيت وحدك؟ هل أعطوك تصريح؟ أهو تصريح دائم أم لمرة واحدة؟ كيف صحتك؟ وكيف أمي؟ وكيف الأهل؟ وأين تسكنون بعد هدم البيت؟ وهل أنت غاضب مني بعد ما تعرَّضت له من أذى بسببي؟ أجاب مبتسماً: هوِّن عليك يا ولدي، ثم صرَّح قائلاً: يا ولدي إن كان الأقصى بخير فنحن بخير، لا تقلق أمك بخير وأختك بخير وأخيك الأصغر لا زال مطارداً، ولكننا نراه بين الفينة والأخرى، وأخوك الأكبر كما تعلم في سجن مجدو ولم نزُره بعد، فهو أيضاً ممنوع من الزيارة...
الزيارة ما أجمل هذه الزيارة فقد رأيت فيها أبي بكاملِ كبريائِه وشموخه يُخفي عني آثارَ السَّفرِ، وآلامَ الفراقِ لا يقول إلا ما يُسعدني لا يذكر أيَّ خبر فيه شيء من ألم، يتكلم بلغةِ الواثقِ بنصرِ الله حتى أنه لا يُظهر شيئاً من سوءِ معاملةِ السَّجانِ ولا ذاك الجندي الصغير على الحاجزِ عندما يتطاول على الكبارِ كانت رسالته واحدة يا ولدي نحن بخير فلا تقلق.
قُرِعَ الجرس انتهت الزيارة غادر الحبيب وأخذ قلبي معه يهديه إلى أمي هناك تنتظر خبراً من ولدها لعلَّ قلبي يُضَم إلى قلبِها يخفف عنها شيئاً من ألم الفراق.
ثم كان اليوم التالي ككل أيّامِ السّجنِ تفوح منها رائحةُ سجانٍ كريهةٍ، وصوت أبواب لا تحمل معها إلا رائحة العذاب، رأيت أصحابي يتهامسون وعيونهم تقول الكثير وألسنتهم معقودة والطير على رؤوسِهم، أسألهم ولا يجيبون، ما الخبر؟ ما الذي حدث؟ لماذا خُيم الصمت على القبور؟ ولا مُجيب!!!
ولكن هناك بالتأكيد أمرٌ جَلَل ويبدو أن الأمر يخصُّني دون غيري فكلهم يختلسون إلي النظر، ولا يتكلمون، هل يا ترى داهم المحتل بيتَنا، وعاث فيه فساداً؟ ولكن هذا حدث يومي أو شبه يومي فقولوا بلا خجل، أم لعله اعتقل أخي المطارد وهذا قدَر فلسطين الأسر أو الشهادة حتى النصر فتخبروني بالله عليكم بلا وجل.
إلا أن صمتَ القبورِ لا زال على حالِه وفهمت أن الأمرَ أكبر من جلَل لابدَّ أن منارةً من مناراتِ قلبي قد أصابها عُطل، ولكن أبي كان عندي يوم أمس منارة لا تنطفئ، وأخبرني عن أمي كيف هي شعلة تُنير دربَ السالكين وتحرق الغاصبين بلا كَلل، فما الخبر؟
حتى تجرَّأ أحدهم وقال كلاماً متلعثماً على خجل، ترجَّل البطل، بل قال هُدِمَ الجبل، ولكنه زارني يوم أمس وكان شامخاً صلباً عنيداً فكيف حدث ما حدث؟
بعد الزّيارةِ توجه عائداً إلى البيتِ يُكلّم أمي عبر الهاتف عن الزيارةِ يلهج لسانُه بالرّضى عني، ويذكر لها ما رأى ثم صمت، سقطَ البطل على الحاجز العسكري الفاصل بين القلبِ والرُّوحِ بخطٍ أخضر أراد له العدو أن يجعلَها فلسطين مقسَّمة حتى جاء جسدُ والدي المحمول؛ ليصلَ بين ضفتها وداخلها ليقول للمحتل أنها فلسطين إن قسمتها بحواجز وتلال وأسلاك نَصِلها بأرواحِنا وأجسادِنا، نُولد هناك ونستشهد هنا؛ لنرسمَ لوحةً جميلةً لفلسطين تزينها أرواحُ الشُّهداءِ وأجسادُ الأسرى وآلامُ الجرحى، نعم... توفي والدي في اليوم نفسه الذي زارني فيه، وكنت آخر من رآه من أهل بيتي وهو يبتسم وآخر من رآه وهو يقف كالجبل، وآخر من رآه وهو يقول يا ولدي لا تحزن إن الله معنا.
نعم... فَقَدت والدي، ولا زلتُ في الأسر، ولا زالت منارتي تضيء لي حياتي، تلك الأم التي تعبَ الناس وما تعبت، ترى هل سيكتب لنا أن نستظلَ بظلها وأن نقتدي بهديها؟ أم سنودعها تحت التراب دون حتى أن نستطيع ضمَّ قبرها؟؟.