5000، رقم يبدو للوهلة الأولى ساذجاً وعادياً لغير الفلسطينيين، بيد أنه لآلاف العائلات الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس المحتلة، ليس ساذجاً وإنما يشير إلى عدد صغارهم مسلوبي الطفولة الذين تم اختطافهم من أسّرة نومهم في جنح الظلام على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي، والزج بهم في السجن لفترات متفاوتة ما بين عامي 2017 و2019، هذا ما رشح من بيانات رسمية صادرة عن منظمات حقوقية "إسرائيلية".
فلأن هدف الاحتلال منذ يومه الأول البقاء والضم الكامل للضفة الغربية، فهو إلى جانب بطشه اليومي وقمعه للسكان الفلسطينيين، يستثمر للمدى البعيد بإجراءاته الأمنية والقمعية المدروسة لتحقيق ذات الهدف، ولتأمين مستوى مقبول من الحياة الآمنة والمزدهرة لمستوطنيه، ولتطبيع الوجود الاستيطاني بكل مقوماته وآثاره في وعي الفلسطينيين وحياتهم.
فلا غرو إذاً، أن يكون الأطفال الفلسطينيون هم الفئة المرشحة لهذا الاستثمار والأكثر استهدافاً، جرْياً على القاعدة:
"إذا أردت أن تستثمر للمدى البعيد فازرع جيلاً"
غير أن الاحتلال هنا يسعى على نحو مهني وعلمي لزرع جيل فلسطيني من نوع جديد... جيل مكسور خانع، ومتلقٍ سلبي... جيل منحنٍ لا يجرؤ على رفع رأسه في وجه محتليه، فضلاً عن أن يرفع عليهم يده، أو حتى أن يقول (لا) لقاتليه.
إن استهداف الأطفال الفلسطينيين قديم قدم الاحتلال، غير أنه بعد هبة عام 2015 تعلم هذا الاحتلال أن كل جيل فلسطيني جديد يصنع انتفاضته للحرية على طريقته الخاصة غير آبه بعجز قياداته الفلسطينية أو بآلة الحرب والبطش الإسرائيلية.
فما كان من الاحتلال إلا أن أصر على قراره بتحطيم الجيل القادم واجهاض انتفاضته بأسلوب منهجي لا يرحم متبعاً ما اسميه "سلسلة الاعتقال التحطيمية" وهي سلسلة من الإجراءات المحكمة والمدروسة في حلقاتها وتفاصيلها التي يمر بها الطفل الفلسطيني عند اعتقاله في سبيل تحقيق غايتين: الأولى: تحطيم ثقة الطفل بذاته وبوالديه ثم بمجتمعه وقيادات شعبه، الذين عجزوا جميعاً عن حماية أمنه وطفولته. والثانية: تحطيم تقديره لذاته وتحويله عبئاً على أهله راهناً ثم على مجتمعه لاحقاً.
وهذا يعني تحويل داخل الطفل الفلسطيني إلى كومة من حطام، ثم إعادة برمجة داخله ووعيه بما يناسب أهداف الاحتلال. مستر شدين بنظرية بافلوف: إن الإنسان في حالتيْ الفرح الشديد أو الفزع الشديد يكون مهيئاً لتقبل أي شيء يُملى عليه. وبنظرية السيدة كلايْن: إن الإنسان في حالة الصدمة والهلع يشعر أنه لا شيء فيصبح عاجزاً عن فعل أي شيء حتى من الدفاع عن نفسه.
"فسلسلة الاعتقال التحطيمية" المتبعة تتكون من أربع حلقات مرعبة وهي:
1- الاقتحام: يتعمد جنود الاحتلال الليل لاقتحام منزل الطفل اقتحاماً همجياً صاخباً. وبجلبة متعمدة منذ لحظة الاندفاع الاولى في باب البيت الرئيسي، وعلى نحو مباغت وصاعق لأفراد العائلة.
ثم يقتحمون غرفة الصغير، ويفضلونه نائماً حتى يستيقظ مذعوراً مصدوماً إذ يرى نفسه محاطاً بجنود مقنعين مدججين بالسلاح، شاهرينه على نحو مرعب بوجه سذاجة عمره، وبراءة طفولته.
2- السيطرة والاختطاف: لأجل السيطرة على طفل واعتقاله، لا حاجة لوحدة كوماندوز، إذ كان يكفي دعوته مع أبيه لمركز التحقيق، غير أن الاحتلال يقصد إحداث أعلى درجات الهلع والصدمة لدى الطفل الفلسطيني، أثناء السيطرة عليه مع رشقه بأقذع الشتائم والإهانات الجارحة المتعمدة، ثم يخصون وجهه بالصفعات والمدافعة امعاناً منهم في اهانته وإذلاله، وزرع الخوف في أعماقه.
وهذه الهمجية مع الطفل يتعمدونها أمام ناظريْ والديه حتى يتشرب وعيه عجز أقرب الناس إليه عن حمايته، وليتيقن من انهيار آخر خطوط دفاعه: أمه وأبيه، لأن يستسلم ويخضع بالكامل لقاتليه.
ثم يعصبون عينيه بالكامل حتى يفقد احساسه بالزمان والمكان. ويصفدون يديه بالسلاسل خلف ظهره، ويقتادونه دفعاً وجراً إلى بطن "الوحش" إلى جيبهم العسكري، تمهيداً للحلقة الأكثر إذلالاً وايلاماً وهي:
3- مسافة الطريق: غالباً ما يطرحون الطفل المختطف مربوطاً ومعصوباً كجثة هامدة بين أقدام جنودهم ليتسنى لبساطيرهم النتنة واعقاب بنادقهم الخشنة من دكدكة جسم الطفل وروحه فضلاً عن مواصلتهم سيل الاهانات والشتائم، بلا توقف، لتحطيم ما تبقى من طفولته، قبل أن يصلوا به نهاية الطريق:
4- في نهاية الطريق حيث مركز التحقيق يصل الطفل محطماً في داخله، ومهيئاً كالعجوة لإعادة برمجته من جديد من قبل محققي المركز، وما المشاهد المروّعة مع الطفل أحمد مناصرة عام 2015 في أقبية التحقيق إلا قليل من الفيض خلف الكاميرات، ولا سيما أن الطفل يَمثُل وحيداً أمام محققيه من دون رفقة أحد والديه كما يوجب القانون.
ثم يخرج الطفل (أو قُلْ بقايا طفل) من التحقيق بخسائر نفسية فادحة، ويتوقع محققوه أن تكون ثقته بأهله وشعبه قد باتت مهشمة، و"الأنا" معطلة، وتقديره لذاته محطمة وبحصولها جميعها يفقد الطفل استعداداته للمبادرة، والمجازفة، والانخراط في أي عمل جماعي اجتماعي أو سياسي فضلاً عن فعل المقاومة.
وأخيراً، حين الزج به في غياهب السجن تكون سلسلة الاعتقال التحطيمية قد استكملت آخر وأفظع حلقاتها.
واللافت أن العدد 5000 هو العدد الرسمي للأطفال الفلسطينيين المعتقلين بين عامي 2017 و 2019، لكن المصابين من اعتقال طفل واحد يبلغ 50 ألف طفل، إذ إن "سلسلة الاعتقال التحطيمية" أو بعضها غير مقصورة على الطفل المعتقل نفسه فقط، بل تطال آثارها كل طفل في المنزل عايش فظاعة لحظات الاختطاف أو كل طفل مجاور سمع صيحات الأم المفجوعة أو صرخات الطفولة المسلوبة، فالمستهدف جيل كامل.