مشاهد كالسراب تلوح في ذاكرة الطالب الجامعي لواء فيصل نوفل (٢٣ عاما) من مدينة قلقيلية حين اعتقل خاله الأسير القسامي القائد رائد الحوتري عام ٢٠٠٣.
كان لواء طفلا في الثالثة من عمره؛ تصطحبه والدته إلى منزل شقيقها بعد اعتقاله ويسمع الأحاديث ويرى الدموع حين يُذكر اسم خاله؛ وكل من يراه كان يشير له بقرابته مع البطل الهُمام الذي أقض مضاجع الاحتلال.
كبر لواء وفي نفسه صورة خاله تكبر معه؛ لم يره منذ ذلك الحين ولكنه يسمع قصص بطولته وتشخص في عيونه جوانب شخصيته، ولم يتخيل يوما أنه قد يراه إلا بعد التحرر بصفقة مشرفة كونه محكوم بالسجن المؤبد ٢٢ مرة!
اللقاء الوحيد!
في شهر كانون الثاني الماطر من عام ٢٠٢٠ كانت العائلة على موعد جديد من اقتحامات قوات الاحتلال لمنازلها؛ وفي ذلك التاريخ تحديدا تكررت قصة الاعتقال ولكن مع لواء هذه المرة، اقتاده الجنود من داخل منزله إلى آلياتهم ومنها إلى السجون التي طالما سمع عنها وعمن تضم داخلها من قيادات فذة.
يقول لواء لـ مكتب إعلام الأسرى إنه لم يتخيل يوما أن السجون قد تحمل في ثناياها ورغم قسوتها حنينا من نوع آخر؛ وقد تأتي بما لم يأت به الزمان الطويل من لقاءات غير عادية.
نُقل لواء في بداية اعتقاله إلى سجن عوفر؛ وهناك كان يبحث في وجوه الأسرى عن شخصية خاله الذي حرمته الزنازين لقاءه بعائلته، ورغم علمه أنه يقبع في سجن آخر إلا أن الشوق جعله يتخيله في كل شخص.
شاء الله أن يغير السجان رأيه لينقل لواء إلى سجن "ايشل"؛ ذاك الذي يضم مجموعة من خيرة الأسرى بينهم الأسير القائد رائد الحوتري؛ كان نبض لواء يسير قبله وهو يعلم أنه على بُعد دقائق فقط من اللقاء بقطعة من قلبه، خاله الذي حرمه الاحتلال اللقاء به لعشرين عاما.
ويضيف:" لم أشاهد خالي الأسير منذ قرابة العشرين عاماً ولا أتذكر أنني كنت أراه؛ وكنتُ عند اعتقاله طفلاً صغيراً لا أتذكر إلا شيئا بسيطا من شخصيته، وفي هذا الاعتقال أُتيحت لي فرصة ذهبية تتمثل برؤيته والعيش معه عدة أشهر لأن الاحتلال يمنع زيارة الأسير إلا من خلال الدرجة الأولى ولا يسمح لي بزيارة خالي حسب معاييره".
اقتاد السجان لواء إلى داخل الغرفة في سجن "ايشل"، كانت أنفاسه الحارة تلفح وجهه من شدتها وقلبه يتسارع في النبض، دخل الغرفة فوجد خاله نائما على سريره الحديدي، تأمل وجهه وهو يبتسم ويستذكر الحرمان الذي لف علاقتهما طيلة هذه الأعوام.
"خالي.. خالي.." بصوت خافت نادى لواء على خاله؛ فاستيقظ الأسير رائد وعقد حاجبيه مستغربا من الشاب؛ ثم جلس على السرير ونظر إلى وجه الشاب جيدا وصرخ "لواء! لواء! يا ريحة الغوالي".. تعانق الاثنان والدموع تنفر من أعينهما وبدا كل شيء وردياً جميلا رغم قسوة الأسر وتجبر السجان، فلم يعلم الأخير أن هوس الاعتقالات قد يقود إلى مثل هذه اللقاءات!
هدية ربانية
كان عناقا حارا وساخنا كما يصفه لواء، فما حدثَ لم يكن متوقعا، كان الأسير المؤبد يتمعن في وجه ابن شقيقته جيدا وكأنه يبحث فيه عن وجوه جميع أفراد عائلته التي حرم لقاءها.
ويُضيف:" كان وجودي مع خالي هدية ربانية داخل الأسر فقد خففتُ عنه ثِقل أعوام من الأسر وحكم يصل إلى ٢٢٠٠ سنة؛ فالاجتماع به يعتبر فاصلاً في شريط حياته داخل الأسر لأن الاحتلال وإدارة السجون تسعى إلى قتل الروح للأسرى القدامى وتحويلهم إلى أجساد بلا روح.
أشهر قليلة عاشها لواء مع خاله؛ لم تخل من الذكريات والحريث عن العائلة وقلقيلية الجميلة الخضراء وبياراتها الشهيرة بالجوافة والحمضيات، لمس الشاب توق خاله إلى كل شيء والأكبر من ذلك توقه لتحرر وطنه والذي دفع ثمنا من حريته لأجلها.
وفي المقابل تشرب لواء الكثير من المعاني والمفاهيم الراسخة من خاله وبقية الأسرى؛ فالصبر والإرادة والقدرة على التحمل والعيش على أمل الحرية كل يوم أبرز ما تعلمه منهم.
وأكد لواء أنه لولا إيمان الأسرى القوي بالله وساعة فرجه لما تحملوا كل هذه القيود العنصرية؛ فحياتهم كلها قيود تفرض عليهم بشكل قاس وخصوصاً ما يسمى بالعدد الأمني والتفتيش الدوري والقمع الوحشي والتهديد دائماً بالقمع والنقل المستمر واستخدام وحدات القمع للأسرى بشتى الوسائل، ما يجعل حياتهم ملأى بالضغط النفسي والجسدي والحرمان من أدنى الحقوق والعلاج الطبي.
وضرب مثالا على خاله الأسير رائد الذي يعاني من عدة أمراض ويحتاج إلى زراعة قرنية في عينيه ولا تحرك إدارة السجون نفسها من أجل توفير العلاج.
ورغم خضوع لواء للتحقيق في الأسر ومعاناته من التعذيب الجسدي والنفسي؛ إلا أنه يعظم في نفسه صبر وصمود خاله ومثله من الأسرى الذين خاضوا التحقيق العسكري المميت.
بعد انقضاء محكومية لواء البالغة ١٤ شهرا حان موعد الوداع، وداع ليس كأي وداع، فلا أحد يعلم متى يكون اللقاء القادم هل في زنازين مرة أخرى أم في حرية سقفها السماء.. استيقظ لواء وجهز نفسه للإفراج بخطى متثاقلة لا يريد الابتعاد بها عن خاله، كل منهما يحاول أن يشيح بوجهه عن الآخر كي لا يريه الدموع التي تتجمع في عينيه، ولكن لحظة الوداع لا بد لها من التقاء الأعين للمرة الأخيرة ففاض الدمع من جديد.. هذه المرة حزينا مراً محملا بألف وجع.. "سلم على الجميع يا خالي، احكيلهم انا بخير وحريتي قريبة بإذن الله".. هذه كانت كلمات الأسير رائد الأخيرة للواء قبل أن يُغلق باب السجن ويخرج منه الشاب تاركا قطعة من قلبه خلفه.. هذا قدر الفلسطيني أن يلتقي بأحبته تحت سقف السجن اللعين!