بيديها اللتين بدت عليهما آثار التعب تغرس الأسيرة المحررة إيمان نافع نبتة أخرى في حديقة منزلها الواقع في بلدة كوبر شمال رام الله؛ هذا المنزل الذي بات فارغا من ساكنيه إلا هي، تعمل في حديقته وتهتم بأشجاره المحيطة كي تؤنس وحدتها بعد أن غاب الزوج مجددا.
ولا تغيب صورة زوجها الأسير القائد نائل البرغوثي عن مخيلتها طوال الوقت؛ حتى أنها تحدثه مرارا وهي تسقي مزروعاتهما وتهتم بالتربة الحمراء الأصيلة التي وضعتها في محيط المنزل حين تزوجا كي تكون بداية عهد جديد، ولكنها عادت وحيدة مع إعادة اعتقاله وما زالت تنتظر شمسا أخرى لتشرق.
نائل.. الإنسان
ولعل إعادة اعتقال الأسير نائل البرغوثي مع عشرات الأسرى المحررين في الضفة المحتلة منتصف عام ٢٠١٦ كان من أصعب ما مرت به إيمان؛ فصفقة وفاء الأحرار كانت بمثابة المياه التي روت قلوبا عطشى لمئات العائلات بعودة أبنائها.
وتقول لـ مكتب إعلام الأسرى إن نائل يعتبر كما أي فلسطيني أنه مشروع شهادة؛ وبالتالي هو لا يندم أبدا على أي فترة قضاها في الأسر حتى لو دخل عامه الواحد والأربعين في سجون الاحتلال.
وكإنسان تتحدث الزوجة عن عطفه وعن حب فلسطين الذي كبر في قلبه طيلة هذه الأعوام؛ فهو يحب الأرض كثيرا ويفضل البقاء بين أشجار المنزل ويحب أن يمسك التراب بيديه وأن يشتمّه بكل طاقته؛ وكأنه يتنفس حب فلسطين بهذه الطريقة!
وتوضح نافع بأن السجن لم يغير نائل أبدا بل على العكس؛ حوّل محنته إلى منحة فأصبح إنسانا مثقفا بل موسوعة متنقلة وجعل كل وقته دراسة وعبادة حتى إذا ملّ أي من الأسرى شجعه نائل على الدراسة وعلى الدورات التعليمية والنهل من كل الثقافات.
ويبقى نائل الإنسان حاضرا؛ فحياته كلها تقريبا قضاها في الأسر لتتشكل ملامح شخصيته هناك؛ هادئ؛ صبور؛ وقور؛ لا يحب الكلام الكثير ولا يتحدث دون علم، حتى عن تفاصيل الأسر تجده يتحدث بهدوء وبساطة مع طلاقة واضحة في التفاصيل.
ولأنه نائل الإنسان مر بظروف قاسية خلال هذه السنوات الطويلة؛ فأربعون عاما هي دهر بأكمله فقد خلالها الوالدين والأعمام والأقارب وابن شقيقه الشهيد، أما شقيقه الشيخ الجبل عمر البرغوثي "أبو عاصف" فكان يعايشه في الأسر بعد أن أمضى هو الآخر ٣٠ عاما متواصلة، والآن يعود الشيخ للأسر ولكن الاحتلال يمنعه من رؤية شقيقه.
وبعد اعتقال نائل ولد ابن شقيقه عاصم؛ ثم كبر واعتقل وأمضى 11 عاما في السجن وتحرر وأعيد اعتقاله وحكم عليه بالسجن المؤبد أربع مرات.. ولمن يقرأ الكلمات جيدا فتلك حكاية تشبه نسج الخيال، إلا أنها واقع يعيشه فلسطيني تحت احتلال.
الصفقة والاعتقال
ولد نائل في ٢٣/١٠/١٩٥٧، واعتقل في عام ١٩٧٨ وحكم عليه بالسجن المؤبد و١٨ عاما بعد مشاركته في تنفيذ عملية فدائية قرب كوبر قتل خلالها عددا من الصهاينة، وبعد ٣٤ عاما كان اسمه الأول في قائمة المقاومة للتحرير في صفقة وفاء الأحرار، فخرج في ١٨/١٠/٢٠١١ يعانق تراب بلدته ويزور حيّه للمرة الأولى منذ عقود.
تزوج نائل بالمحررة نافع التي كانت والدته تراها في زيارات الأسر بشكل متكرر، وكم تمنت أن تكون هذه الحرة من نصيبه، فحقق لها الأمنية ولكن بعد وفاتها لأن حريته كانت بعد ذلك.
ولأن الاحتلال يحب أن ينغص عليه لم يسمح له بالخروج من مدينة رام الله، حتى المسجد الأقصى الذي طالما تمنى الصلاة فيه لم يسمح له بالوصول إليه، ورغم أن كوبر كانت كافية له إلا أن دراسته وثقافته التي اكتسبها في الأسر عن فلسطين زادته حبا لوطنه وللتعرف عليه ولكنه لم يتمكن من ذلك.
وفي حزيران/ يونيو من عام ٢٠١٤ قرر الاحتلال أن ينهي فصل الحرية هذا من حياة عشرات المحررين في الضفة والقدس متذرعا بعملية خطف ثلاثة مستوطنين بالخليل، حيث اعتقل أكثر من ٧٠ منهم على مرأى ومسمع من العالم الذي يدعي الديمقراطية، ولكنه أعمى وأصم حين يرى كل ذلك يحل بفلسطينيين تحرروا باتفاق ورعاية دولية.
"لو أن هناك عالم حر.. لما بقيت في الأسر ٤١ عاما" هي الجملة التي كتبها نائل لزوجته في إحدى رسائله لها من سجن ايشل، لتسكت عندها كل الكلمات وتتوقف الحياة للحظات فتمر جملة هذا الرجل العظيم لتحطم كل الادعاءات.
وتوضح الزوجة أن الاحتلال أصدر بعد اعتقال نائل حكما بالسجن عليه لمدة ٣٠ شهرا، وبعدما أنهاها أبقاه لشهرين دون سبب، ثم أعاد في إحدى الجلسات حكمه السابق بالمؤبد و١٨ عاما كما غيره من عشرات المحررين.
وتضيف:" كنا ننتظر تحرر نائل بفارغ الصبر وكنا نتمنى ألا يطول اللقاء كما حدث؛ ولكننا في الوقت ذاته لا نريد للمقاومة أن تتنازل عن أي شرط من شروطها، ولكننا نستغرب صمت العالم وخاصة مصر وألمانيا الدولتان الراعيتان للصفقة، ومن المفترض الالتزام بإطلاق سراح الأسرى المحررين في صفقة التبادل".
ويواصل الاحتلال المماطلة في ملف الأسرى المعاد اعتقالهم؛ حيث عقد لهم في البداية جلسات محاكمة؛ ثم قرر أن يعقد لهم جلسات منفردة، وأعاد أحكامهم المؤبدة ثم يماطل في النظر بالاستئنافات المقدمة من محاميهم وعائلاتهم.
وتؤكد نافع أنه طالما بقيت المقاومة مصرة أن يطلق سراح هؤلاء المحررين كبداية لأي اتفاق فإن العائلات مطمئنة أن من جعلها تعيش الفرحة في الصفقة الأولى سيجعلها تعيش فرحة مضاعفة في الصفقة الثانية بإذن الله.
نائل.. الأسير الحر
لا يمكن لشخص بحجم نائل البرغوثي أن يوصف بالأسير رغم أن الزنازين تقيده، فهو أسير الجسد فقط لأنه روحه تحلق فوق كل فلسطين وتمر عبر سهولها وجبالها وبياراتها لتحكي له عن عقود لم تغيبه عنها إلا حضورا فقط، بينما كان حاضرا بوجدانه في سلسلة الأحداث التي مرت طيلة وجوده في الأسر.
ويتداول الأسرى والمحررون حكاية الباب الحديدي الذي صدأ وتغير عدة مرات خلال فترة وجود نائل في الأسر، ولكن صفاته الحميدة وأخلاقه ومعرفته الواسعة هي أول ما يتعرفون عليها حين يلتقون به.
ويرى من عايشه أن نائل إنسان حر رغم الأسر؛ فهو لم يسمح للسجن أن يحفر ظلمه فيه حتى لو غيبه عن حياته التي كان من المفترض أن يعيشها كبقية الناس، فغرس نفسه بين الكتب والروايات وتعلم القرآن جيدا ودرس في مختلف المجالات حتى بات يحفظ بعض الكتب حفظا.
وعن أخلاقه لا يمكن لمن يلتقيه أن يعلم أنه أحد عمداء الأسرى إلا إذا تعرف على اسمه؛ فهو يرفض إلا أن يشارك الأسرى أعمالهم اليومية ويحب الرياضة والنشاط والحركة ويكره الكسل والخمول، ومتواضع لدرجة كبيرة وقليل الكلام بين الأسرى إلا إذا سئل عن أي موضوع.
ولا يمكن هنا أن يختصر الحديث عن أربعين عاما من الصبر؛ ولكن يمكن على الأقل التذكير بتلك السنوات التي تشبه فلسطين في معاناتها وجراحها وحب الأرض الذي يسكن كل روح فيها.. ليكون نائل هو الوجه الآخر للوطن، فدائي أولا وأسير الجسد ثانيا ثم عملاقٌ لم تنل منه السجون وما زال يحلم بأبسط حق.. حرية وشمس بلا أسوار ولا قيود.