معاذ حامد.. من المطاردة إلى المؤبد : حكاية أسير فلسطيني تواجهها أمّ بصبر الجبال
تقرير/ إعلام الأسرى

ثقيل هو الليل على أمهات الأسرى، يتجرعن فيه جرح الفقد ومرارة الانتظار، يطوين صفحاته أملاً بانفراجة قريبة تزهر في القلوب. معارك يومية تخوضها الأمهات مع المحامين لتأمين زيارةٍ إلى السجون، ورسائل يكتبنها بدموعهن لتُنقل شفهياً إلى أبنائهن، تسقط منها معظم معاني الشوق.

وعلى الصفحة المقابلة، حين تصل الرسالة إلى الأسير، يخفي أوجاعه في صدره، ويبلغ المحامي بأنه بخير، وأنه لا ينقصه شيء سوى أن تكون أمه بخير. لكن قلب الأم لا يهدأ بهذه الكلمات، ولا تنطفئ بها نار الشوق، فيعود الليل ليفترس أفكارها من جديد.

يواصل مكتب إعلام الأسرى نقل شهادات أمهات وزوجات وشقيقات الأسرى المحكومين بالمؤبدات، اللواتي يقفن خلفهم بصبرٍ نادرٍ وتحدٍّ متواصل، يوثّق المكتب من خلالهن جزءًا يسيرًا من معاناةٍ التهمت أعمار العائلات كما التهمت أعمار الأسرى داخل السجون.

أم معاذ واحدة من أكثر الأمهات الفلسطينيّات صبرًا وجلَدًا. لديها ابنان سرق الاحتلال شبابهما وحقّهما في الاستقرار، وتركها، وهي المعيلة الوحيدة للعائلة، تواجه المرض وضيق الحال بإصرارٍ لا يلين. تصف معركتها مع الزمن والسجان في محاولةٍ للإبقاء على قوتها، رغم ما حلّ بها من وجع.

ابنها الأسير المؤبد معاذ صالح جمعة حامد (37 عامًا) من بلدة سلواد قضاء رام الله، قضى ما مجموعه 13 عامًا في سجون الاحتلال على مراحل متفرقة منذ العام 2012. تقول والدته: "بدأ مسلسل اعتقال معاذ منذ عام 2012، يعتقله الاحتلال، ينال حريته لشهرٍ أو أقل، ثم يُعاد اعتقاله مجددًا. تعرّض للاعتقال ثلاث مرات، ثم اعتقلته السلطة الفلسطينية سبع سنواتٍ كاملة، وبعد الإفراج عنه، لاحقته طائرات الاحتلال حتى أعيد اعتقاله مجددًا. وفي هذه المرة صدر بحقه حكمٌ بالسجن المؤبد المكرر مرتين، إضافة إلى غرامةٍ مالية باهظة بقيمة مليون وتسعين ألف شيكل".

اتهم الاحتلال الأسير معاذ حامد بتنفيذ عملية إطلاق نار عام 2015 في مستوطنة شفوت راحيل المقامة على أراضي قرية جالود جنوب نابلس، والتي أسفرت عن مقتل مستوطن وإصابة آخرين، وذلك ردًا على جريمة حرق عائلة دوابشة في قرية دوما، واستشهاد الطفل عروة حماد من سلواد في أكتوبر 2014، وكان حينها طالبًا في الصف العاشر.

وخلال فترة اعتقاله لدى أجهزة السلطة الفلسطينية، هدم الاحتلال منزل عائلته، وتعرضت الأسرة لاقتحاماتٍ متكررة وتنكيلٍ دائم. ومنذ ذلك الوقت تنقلت العائلة بين منازل للإيجار، ثم حاولت شراء منزلٍ جديد رغم التكاليف الباهظة، ولا تزال تغرق في تسديد ثمنه حتى اليوم أملاً في استقرارٍ طال انتظاره.

تشير والدة الأسير إلى أن المحامي تمكّن من زيارته مؤخرًا في قسم 12 بسجن نفحة، وقد لاحظ فقدانه الكبير للوزن، إذ انخفض من 94 إلى 60 كيلوغرامًا، بعد إصابته بمرض السكابيوس (الجرب) وتعافيه منه لاحقًا. تقول: "دخل الزيارة بابتسامة، وحين علم بانتهاء مراحل الصفقة شعر بالحزن، لكنه قال للمحامي: المهم أن لا تحزن أمي، الله اختار لنا الخير. تمنيت لو يضعف أو يبكي، لكنه دائمًا يخفي وجعه كي لا يقلقني. أنا القلقة عليه، وهو القلق عليّ".

تضيف والدته: "معاذ صاحب شخصية قوية، يؤمن بالله وقدره، يوزّع المعنويات على زملائه الأسرى، لكنه يدفع ثمن ذلك من صحته ونفسيته. أتمنى لو يشكو لي ولو مرة واحدة".

كان معاذ مستبشرًا بصفقة طوفان الأحرار، وأبلغ عددٌ من الأسرى المحررين عائلته بأنه كان يُحضّر نفسه للحرية، غير أن اسمه سُحب من القائمة النهائية. تقول والدته بأسى: "كانت تلك الفترة الأصعب في حياتنا، شعرت بالعجز. حين اقتحم كابتن المنطقة سلواد مع جنود الاحتلال، قال للشبان: تظنون أنكم انتصرتم؟ لقد أخرجنا فقط من أردنا إخراجه، وها هو معاذ حامد ما زال في السجن".

للأسير معاذ ابنةٌ اسمها بيسان تبلغ من العمر 13 عامًا، تضاهي سنوات اعتقال والدها. نقل المحامي عنها رسالةً بعث بها والدها إليها قال فيها: "أحبك يا بيسان، وأشتاق لرؤيتك، وأرافقك في الدعاء كل فجر، حين ترفعين يديك في الصلاة، أنا معك بقلبٍ حاضرٍ وروحٍ مؤمنة. ادرسي واهتمي بمستقبلك، وكوني قوية، فحرّيتنا قريبة بإذن الله".

منذ بداية الحرب الأخيرة، لم تزُره أي مؤسسة رسمية تُعنى بشؤون الأسرى، وتضطر والدته لملاحقة مواعيد المحامين وخوض جدالاتٍ مرهقة لتأمين تواصلٍ بسيط معه. سجن نفحة من أصعب السجون زيارةً لأهالي الأسرى، وحتى الرسائل لا تصل إلا شفهياً عبر المحامين، بعد جهدٍ كبير من الأمهات في كتابتها وحفظها.

تقول والدة معاذ: "رقم 13 ليس رقمًا عاديًا، لا يمكن وصف معاناته بالكلمات. منذ اعتقاله لا أنام الليل، أبقى مستيقظة حتى الفجر. منذ سنةٍ وبضعة أشهر فقط اطمأن قلبي قليلًا بعد الإفراج عن ابني الآخر نعمان حامد، الذي قضى خمس سنواتٍ في الاعتقالات الإدارية".

نعمان، شقيق معاذ، واجه بدوره اعتقالاتٍ متكررة بسبب صلة القرابة، إذ كان طالبًا في جامعة بيرزيت حين اعتُقل، وتأخرت دراسته عشر سنواتٍ حتى تخرج بسبب الاعتقالات المتكررة والتنكيل.

يبقى الليل شاهدًا على سهر أم معاذ، وهي تكتب رسائلها للمحامين على أمل أن تصل كلماتها إلى قلب ابنها خلف الجدران. تبدأ من اليوم كتابة الرسالة المقبلة، وتختمها دائمًا بجملةٍ واحدةٍ لا تتغير: "سنلتقي قريبًا يا معاذ، فالله لا يخذل الصابرين".

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020