في سجون الاحتلال، لا يشبه شيء نهاية شيء، فموعد الإفراج عن الأسير قد لا يكون سوى بداية فصل آخر من الألم، بلا تهمة، بلا محكمة، وبلا أفق، هكذا تفرغ الحرية من معناها، وتعلق كحلم مستحيل عند بوابة السجن.
لم يعد انتهاء محكومية الأسير الفلسطيني يعني بالضرورة عودته إلى الحياة. ففي عُرف الاحتلال ومحاكمه الصورية، لا يكفي أن يقضي الأسير سنواته خلف القضبان حتى ينال حريته، فقرار الإفراج لا تصدره المحكمة وإنما تصوغه مزاجية ضباط المخابرات وبتوصية منهم، يمكن أن يسحب حق الأسير في الحرية في اللحظة الأخيرة، ويلقى به في دوامة جديدة تحت مسمى "الاعتقال الإداري".
فما إن يقترب موعد الإفراج حتى تتحول لحظة الأمل إلى نذير خيبة. تقف العائلات على الحواجز بانتظار الأحبة وفي الأيدي الورود وفي العيون دموع الفرح، لكن الاحتلال لا يفرج إلا عن الخيبة. يبلغ الأسير بأن ملفه حُوّل إلى الإداري، ويبدأ من جديد عد الأيام، بلا تهم، بلا محاكمة.
أسرى انتهت محكومياتهم وبقي القيد
الأسير إبراهيم جمال جودة من رام الله، اعتُقل في يوليو 2023، وتعرض لتحقيق قاس في عوفر، ثم حكم عليه بالسجن الفعلي 22 شهرا. أنهى محكوميته كاملة، لكن بدل أن يحتضن عائلته صدر بحقه أمر اعتقال إداري لمدة 6 أشهر.
والأسير محمود عبد الله النمروطي من مخيم عسكر القديم في نابلس، قضى 4 سنوات ونصف في الأسر، وكان على موعد مع الحرية الأسبوع الماضي، لكن توصية من الشاباك حولته إلى الاعتقال الإداري لمدة 4 أشهر.
أما الأسير ثائر ناصر هصيص من جنين، فقد أنهى عاما كاملا من الاعتقال ليستقبله أمر إداري جديد، دون أي مبرر سوى إرادة الاحتلال.
والأسير إسلام بدير من طولكرم، نجل الشهيد الشيخ رياض بدير، والمهندس الذي تنقل بين السجون، أمضى 10 شهور محكومية فعلية، وعند باب السجن حُوّل إلى إداري دون تهمة، فقط لأن اسمه لا يروق لأمن الاحتلال.
اعتقال بلا محكمة ومعاقبة بلا جريمة
مكتب إعلام الأسرى وصف هذه السياسة بأنها عقاب مزدوج يتنافى مع كافة الأعراف والمواثيق الدولية، وعلى رأسها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، واتفاقيات جنيف. أن يعاقب الإنسان مرتين على نفس الفعل، أو أن يحتجز دون تهمة هو انتهاك صارخ لمبادئ العدالة.
الاحتلال يسعى لكسر عائلة الأسير ونزع الأمل من نفوسهم. فالعائلة تحسب الأيام بالدقائق، وتتهيأ للقاء الغائب، لكن فجأة، تصلها رسالة مقتضبة تم تحويله للإداري.
أما عن التأثير النفسي على الأسير ذاته، فهو لا يقاس. فالأسير يودع رفاقه، يرتب أفكاره لاحتضان الحياة مجددا، ثم يلقى به مجددا في العدم، ليواجه فراغا أشد ظلمة من الزنزانة ذاتها.
تصاعد مقلق وأداة قمع مفتوحة
منذ السابع من أكتوبر صعد الاحتلال من استخدامه الممنهج للاعتقال الإداري، ليبلغ عدد المعتقلين الإداريين أكثر من 3500 أسير، بينهم طلاب جامعات، صحفيون، شخصيات مؤثرة وأسرى محررون.
إنه سجن بلا أبواب، وعدالة بلا ميزان.
الاعتقال الإداري صار أداة مركزية لإبقاء الفلسطينيين رهائن لمزاج أمني لا يخضع لأي رقابة.
لا شيء يوجع أكثر من الحرية حين تتحول إلى سراب ومشهد العائلة تنتظر على الحاجز ثم تعود خائبة يروي كل الحكاية.
في عرف الاحتلال لا نهاية للأسر فقط أشكال متبدلة من القيد.