أحمد مناصرة.. "مش متذكر" صار جرحًا في قلب الوطن
تقرير – إعلام الأسرى

في ذلك اليوم، عندما سقطت أولى قطرات المطر على شوارع القدس المحتلة، لم تكن مجرد زخاتٍ عابرة، بل كأنها تنذر بانسكاب الحكاية – حكاية طفلٍ لم يُكمل الرابعة عشرة، لكنه عرف من القهر ما يعجز الكبار عن تحمّله.

كان أحمد مناصرة مجرد طفل، يحمل في عينيه براءة العمر وأحلامًا صغيرة قد تكون له، مثل أي طفل آخر في العالم.

لم يكن يعلم أن تلك اللحظات البسيطة، التي تشارك فيها الابتسامات مع ابن عمه حسن في شوارع بيت حنينا، ستكون لحظات الوداع.

في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2015، خرج أحمد مع حسن، طفلين يرافقان بعضهما بعضًا في رحلة بسيطة عبر مستوطنة "بسغات زئيف"، حيث كان الصوت الوحيد في المكان هو خطواتهما على الأرض، لم يدرك أحمد أن ثمة شيئًا ما في الأفق قد يغيّر حياتهما إلى الأبد.

فجأة، وكأن الزمان توقف، اهتزت أرجاء المكان بصرخة عالية، ثم تلتها أصوات الرصاص الذي اخترق جسديهما. استشهد حسن في مكانه، وانهار كل شيء حول أحمد، لكنه لم يسقط.. حاول أن يستجمع قواه، فبينما كانت آلامه تتسارع، كان هناك شيء أكبر من الجروح يدمّر روحه.

التحقيق.. لحظة الانكسار الأولى

نُقل أحمد إلى المستشفى، مكبلًا، جسده المثقل بالجراح ملطخ بالدماء، لكن قلبه كان يحمل جرحًا أعمق، لم يكن مجرد طفل مصاب، بل طفلاً سُرق منه الزمن، سُلبت منه طفولته بين يدي من لا يرحمون.

بعد أيام قليلة، كانت الكاميرا الإسرائيلية تكشف عن محاكمة من نوع آخر.. جلس أحمد، الطفل المنهار، أمام محققي الاحتلال، عيونه تملأها الدموع والهلع، وصوته يرتعش بينما يجيب على الأسئلة: "مش متذكر".

لم يكن يتذكر كيف يتحمل هذا الألم، ولا كيف يواجه آلة القمع التي كانت تحاول سلبه إنسانيته، تلك الكلمات البسيطة، التي خرجت منه بصوت خافت، كانت تصفع ضمير العالم.

الحكم.. حين يُعاقب الطفل على طفولته

رغم أن القانون الإسرائيلي حينها كان ينص على أن الأطفال دون الرابعة عشرة لا يُسجنون، إلا أن الحكم على أحمد خالف كل شيء.

صدر الحكم بسجنه 12 عامًا، خُفّضت لاحقًا إلى 9 سنوات ونصف، وغُرّم بمبلغ 180 ألف شيكل.

عاش أحمد طفولته في الزنازين.. عُزِل عن العالم، لا يرى الشمس إلا نادرًا، وكانت جدران الزنزانة تضيق عليه يومًا بعد يوم، حتى أصبحت شاهدة على انهياره التدريجي.

المرض.. حين يتآكل الجسد والعقل معًا

بمرور الوقت، بدأت تظهر علامات الانهيار النفسي.. تم تشخيصه بالفصام والاكتئاب الحاد، وتحول من طفل مفعم بالحياة إلى شاب منهك، يتآكل من الداخل والخارج.

رغم مطالبات واسعة من منظمات دولية بالإفراج عنه، أصرّ الاحتلال على إبقائه خلف القضبان، مصرًا على تصنيفه ضمن "ملفات الإرهاب"، متجاهلًا سنّه، ووضعه النفسي، وحقه في الحياة.

الإفراج.. حرية بطعم الخديعة

واليوم، وبعد نحو تسع سنوات ونصف من الظلام، خرج أحمد من السجن.. لكنّ الاحتلال لم يترك لحظة الحرية تمرّ دون خديعة.

كانت عائلته تنتظره عند بوابة سجن نفحة، مترقبة لحظة احتضانه بعد سنوات الفقد، لكن اتصالًا جاءهم من أحد الأخوة البدو في بئر السبع أبلغهم أن أحمد معهم.. لقد تعمّدت سلطات الاحتلال الإفراج عنه في منطقة نائية، بعيدًا عن أعين الإعلام وأحضان العائلة.

رغم ذلك، لم تغب الزغاريد.. وصلت العائلة إليه، وكان اللقاء مشحونًا بدموع الفرح والحزن معًا.

حين وصلت الأم، التي انتظرت سنوات العمر، مدت ذراعيها لتحتضن ابنها، لكن أحمد لم يعرف إن كان يحلم.. كان اللقاء باهتًا من شدة الصدمة، حقيقيًا لكنه لا يُصدّق.. وقف للحظات كأن الزمن توقف داخله، ثم ببطء، ارتخت ملامحه، وذابت دموعه على كتفها، كأن شيئًا ثقيلًا قد زال أخيرًا.

ما بعد الحرية.. قيد جديد

لكن حتى الحرية لم تكن كاملة، فسرعان ما أعاد الاحتلال فرض قيدٍ جديد على أحمد، بقرار بالحبس المنزلي حتى يوم الأحد المقبل، مع كفالة مالية بلغت 3 آلاف شيكل.. هو ليس حرًا تمامًا، بل ما زال نصف طليق، يعيش حريته تحت شروط الاحتلال، كأنهم أرادوا أن يقولوا له: "سنُفرج عن جسدك، لكننا لن نُفرج عنك كليًا".

لحظات القهر الأخيرة في الأسر

في اللحظات الأخيرة قبل أن تلامس قدماه عتبة الحرية، لم يكن المشهد عاديًا.. وكأن الاحتلال أراد أن يترك ندبة جديدة في ذاكرة أحمد، فاقتادوه إلى زاوية معزولة، ودون رحمة، أدخلوا رأسه في حاوية للقمامة، ثم حلقوا شعره حتى الصفر، في مشهد مهين، أرادوا به تحطيم كرامته في اللحظة التي كان يستعد فيها لاستعادة نفسه.

كانت تلك اللحظات أقسى من سنوات طويلة قضاها خلف القضبان، لكنها لم تكن كافية لكسره.. خرج أحمد من الزنزانة مرفوع الرأس، مثقلاً بالألم، لكنه محصّن بالعزيمة، كأن صموده الأخير كان رسالة بأنهم لم ينتصروا عليه، ولن يفعلوا.

أحمد مناصرة ليس مجرد اسم في سجل الأسرى، بل مرآة لوطن يُسرق منه أطفاله قبل أحلامهم.. خرج من السجن بجسد منهك، لكن بروح لم تنكسر، حاملاً ذاكرة مثقلة بسنوات من القهر والعزلة والعذاب، وابتسامة خجولة تقاوم الانهيار.

قصة أحمد تظل شاهدًا حيًا على جريمة ما زالت تتكرر، وتُعيد طرح السؤال القاسي: كم من الأطفال الفلسطينيين يجب أن يُسحقوا تحت وطأة الاحتلال حتى يصحو العالم؟

في عيني أحمد، رغم كل شيء، ما زال هناك ضوء… خافتٌ لكنه عنيد.

وبينما كانت أولى قطرات المطر في القدس قد واكبت بداية ألمه، ربما ينتظر أحمد أن تمطر من جديد لا لتغسل الوجع، بل لتروي حلمًا تأخر كثيرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020