طفولة قاسية عاشها الأسير ورد شريم (23عاما) من مخيم جنين شمال الضفة المحتلة، فوالدته تركته وأشقاءه أطفالاً وكبروا دون أم ترعاهم وتعتني بهم، حتى وجد العائلة التي عوضته عن حنان الأم وعطف الوالدين.
كان ابن عمه يوسف يزور منزل جدته ويطمئن عليها يوميا، ولأنه يكبر ورد بست سنوات يرى فيه الأخير أخاً كبيراً حانياً عطوفا وكإنه هبة من الله لقلبه الكسير.
مع مرور الأيام أصبح ورد يلحق بابن عمه إلى منزله ويقضي وقته معه، يتعلم منه، يتشرب من أخلاقه العالية، لا يعود لمنزله إلا للنوم.
تقول أم يوسف إن ورد أصبح ابنا سادسا لها، تعتني به وتربيه منذ كان في الرابعة من عمره، تعلمه عن الحياة والتعامل مع الناس، كان يأكل في منزلها ويساعدها ويقضي معظم ساعات اليوم هناك في بيت عمه، ويناديها "أمي" مع مرور الأيام.
كبر يوسف وورد، تربيا في المساجد وأصبحا من خيرة شبان المخيم، بقي ورد يتعلم من يوسف ويتشرب أخلاقه الدمثة، يلازمان بعضهما كالطيف فلا يطل يوسف إلا وورد معه، يتحدثان، يتضاحكان، يصليان ويكبر فيهما حب أرضهما.
لم يكن مفاجئا بالنسبة لوالدته أن ينضم يوسف للمقاومين في المخيم، فهو ابن المسجد والشاب الذي يناديه كل المخيم بالشيخ رغم صغر سنه، فكانت الخطوة الطبيعية التالية ألا يقبل بالوجود الصهيوني على أرض وطنه المبارك.
ولأنه يتأثر بيوسف في كل شيء، انضم ورد هو الآخر للمقاومين، فأصبحا جزءا من السد المنيع الحامي لمخيم جنين، متزينيْن بأخلاق سمحة وروح طيبة والكثير من رضا الأم.
جرح لا يلتئم
خرج يوسف صبيحة 16/3/2023 برفقة صديقه المقاوم نضال خازم إلى مدينة جنين، كان ورد يومها يشعر بانقباض في قلبه وأخبر "أمه" أنه ليس بخير، هي الأخرى شعرت أن هذا يوم مختلف ولكن لم يملكان شيئا من أمرهما سوى تمني الخير والدعاء بحماية المقاومين أينما وجدوا.
بضع وصاصات غادرة سُمع دويها في أرجاء جنين وسقط وقعها في قلب ورد وأم يوسف، لم يعلمان ما حدث ولكنهما صرخا في الوقت ذاته "يوسف"، خرجا من المنزل يبحثان عن وجهه بين المارة في الشارع وأزقة المخيم، بين الحجارة والمنازل يناديان وكأنهما لا يريدان تصديق أي خبر.
رن هاتف ورد المحمول، كانت تلك المكالمة التي لا يريد سماعها أبدا، "يوسف أصيب، أحضِر أمه وتعالا"، توجها للمستشفى والدموع تملأ وجهيهما، دخلا الغرفة، لم يكن مصابا، كان بدرا مكتملاً مسجىً بلطف على السرير، أنفاسه مقطوعة ولكن وجهه يحكي كل الحكاية.. رحل يوسف وأخذ قلب ورد معه.
ورد.. أسيراً
يفتتح يومه كل صباح بزيارة أخيه، صديقه، طيفه الذي يحتضنه الثرى، يتكلم معه كما اعتاد يوميا، حتى أنه يمازحه ويتخيل ضحكته الدافئة فيحاول التبسم.
جاء يركض لأمه وهو يحمل هاتفه، انظري ليوسف يحملني وأنا رضيع، وجد الصورة فطار فرحاً، ثم عبس ووقف في مكانه، تمتم قائلا:" حملني وأنا طفل، ثم حملته وهو شهيد".. كان مشهد ورد وهو يحمل يوسف على كتفيه يوم تشييعه مؤلما قاسيا، يبكيه بحرقة كما يبكي الطفل أباه، يودعه بكلمات لم يعرف عمقها الكثيرون.
حياة ورد أصبحت منقوصة بعد رحيل يوسف، يقول لأمهما "انشلع قلبي يما"، وتردد هي الأخرى بالمثل.. يجلسان للحديث عنه فتتحشرج الكلمات ويُخنق الصوت، يبكيان بصمت.
فجر الرابع من سبتمبر الحالي استيقظ المخيم على صوت صليات الرصاص، لم تكن إلا من سلاح ورد الذي حمله وأقسم فيه لشقيق روحه أن يحمي البلاد من بعده، حيث حاصرت وحدات صهيونية خاصة منزله الملاصق لمنزل يوسف.
تحدثنا أم يوسف عن تلك الساعات الثقيلة، علمت أن ورد محاصر، هل سيغادرها هو الآخر ويرحل لجوار رفيق دربه؟ هل ستفقدهما في عام واحد؟ دعواتها تناثرت في الحي وبكاؤها اختلط بآيات الحفظ والتمكين التي كانت تقرأها كلما سمعت صوت الرصاص.
"آخ يما".. صرخة دوت من جوف ورد خرجت لمسمعها مباشرة، لم تستطع الوقوف بعدها فظنت أنه الآخر رحل، حاولت تهدئة نفسها والتماس صوت آخر عل قلبها المحترق يهدأ قليلا، ثم في لحظة أخرى خرج صوت ورد مجددا متألماً من إصابته.
"كنت من شدة الخوف أغلق أذناي، لا أريد سماع شيء، خشيت عليه من الشهادة رغم أنه كان يطلبها دوما خاصة بعد استشهاد يوسف، ولكن حين سمعته يتألم اطمأن قلبي، ناديته من وسط الاشتباكات.. أنا معك يا ورد، أسمعك يا حبيبي، لا تتركني وترحل، ابق قوياً كلنا ننتظرك".
بعد قرابة الساعة اقتحم الجنود منزل يوسف، أخرجوا عائلته كلها من البيت ووضعوها في مكان قريب من منزل ورد، فجأة سمعت أم يوسف أنفاس ورد فالتفتت حولها لتجده معتقلا مكبلاً مصابا نازفا، خرج قلبها من مكانه حين رأته وبدأت بالحديث معه.
كانت كلماتها تصبّره وتقويه وتمده بالمعنويات والثبات، ثم جاءوا بصديقه معتصم جعايصة نازفا هو الآخر بعد أن نهشت ساقه الكلاب البوليسية وجرته أرضا على طول الشارع المحاذي للمكان.
اعتقل المصابان مع صديقهما عبد الله صبح، مقاومون حموا المخيم من دنس الجنود مراراً، ولكن قدرهم أن يكونوا أسرى وصورة "الشيخ يوسف" لا تفارق ثلاثتهم.
منع الاحتلال الزيارة عن عائلة ومحامي ورد المصاب برصاصتين في فخذه وكاحله، لم يقو على الحراك حين اعتقلوه ورأته أم يوسف وهو محاط بعشرات الجنود لحظة نقله من المكان وهي تلهج بالدعاء له وترى آثار فلذة كبدها يوسف في خطواته.
هاتفها شبان لا تعلم من هم، وأخبروها أن ورد بخير وخرج من العناية المكثفة بعد أسبوع من المكوث فيها، هي تعلم تماما أنه سيتعرض لتحقيق مكثف، وتعلم أنه سيذوق الويلات ربما في السؤال عن دوره في المخيم.
" ولكنني أعلم تماما أن ورد ابني الذي لم ألده، سيكون على قدر هذا الحمل الثقيل، وسيخرج يوما ويعود لي، وسأرى يوسف من خلاله مجددا".