لم يكن طفلا عاديا منذ ولادته؛ هكذا تصفه والدته وهي تحمل صورته وتحتضنه بعينيها الدامعتين بعد أن حالت القيود بينهما، هو طفلها المدلل حتى وإن كبر، وهو حلمها الأبعد الذي تتمنى أن يتحقق ولو لحظة واحدة، أن يعود لينام على كتفها ويتحدث معها وهي تستمع إليه بسرور.
الشاب محمد محمود السلايمة من مدينة القدس المحتلة يحب مدينته وتحبه؛ اعتاد أن يصلي في المسجد الأقصى المبارك الذي كبر في رحابه وبين مصلياته كأي طفل مقدسي، ولكن هذا الحب كبر كثيرا في قلبه حتى قرر يوما ما أن ينتقم لها من ممارسات الاحتلال الجائرة، فنفذ عملية دهس في حي الشيخ جراح بتاريخ السادس من مارس/ آذار عام ٢٠١٥.
"ادعيلي يما" كانت آخر كلماته لوالدته قبل أن يخرج من المنزل موهما إياها بأنه حصل على عمل جديد؛ فطلبت منه العودة باكرا كي يلتقيا لصلاة الجمعة في الأقصى، ولكنه لم يعدها بذلك وقال إنه لن يتمكن بسبب عمله.
قلبها بدأ بعد ذلك يشعر بشيء غريب؛ فهي الأم التي ربته، وهي التي سهرت عليه في مرضه وهو طفل في الثالثة من عمره حين عانى من مرض القلب.
وتقول لـ مكتب إعلام الأسرى إنه عانى من مشاكل صحية اضطر لأجلها لإجراء عملية جراحية كانت نسبة النجاح فيها ١٪ فقط، وكانت العائلة تخشى عليه من الوفاة خلالها، ولكن الله قدّر أن تنجح العملية وأن يُمنح محمد الحياة ليكبر وينفذ عملية فدائية.
أصبح محمد بعد الجراحة الطفل المدلل لكل العائلة؛ فالجميع يخشى عليه ويسأل عنه ويريد له الخير والسلامة والعافية، ولكنه كان يفكر أبعد بكثير وهو يعيش في المدينة التي تتعرض للانتهاكات جملةً يوميا.
سمعت والدته عن وقوع عملية دهس في حي الشيخ جراح أسفرت عن إصابة خمس مجندات فازداد القلق لديها، حاولت الاتصال بمحمد ولكنه لا يجيب، فاشتعل قلبها بنار الترقب وبقيت تراقب الأخبار العاجلة، وحين جاءت صورة منفذ العملية مضرجا بدمائه عرفته على الفور من ملابسه وكانت الأنباء تتداول استشهاده، فصرخت في المنزل: محمد استشهد محمد شهيد!.
بقي محمد مصابا بالرصاصات غير قادر على الحراك، وحين بدأ يغيب عن الوعي سمع الجنود يقولون: هيا أخرجوه من المركبة لقد مات!، أي أنهم انتظروا حتى يستشهد، ولكن الله نجاه من جديد.
وتوضح والدته أنها كانت صابرة في تلك اللحظات وتدعو الله وتبكي قليلا، وامتلأ منزلهم بالمقدسيين الذين تجمعوا لمواساة العائلة وعزائها، وفي تلك اللحظات اقتحمت قوات الاحتلال البيت واستدعت والده وأشقاءه للتحقيق.
ترقب قاتل
بعد ساعات أعلن الاحتلال أن محمد على قيد الحياة ولكن مصاب بجروح خطيرة، فتم نقله مكبلا إلى إحدى المستشفيات وهو مصاب بعدة رصاصات، وبعد أسبوع استفاق من غيبوبته لتبدأ بعدها رحلة المعاناة الأليمة والأيام التي وصفها بالأكثر صعوبة في حياته.
وتشير الوالدة إلى أن محمد بدأ يشعر بأوجاعه بعد الغيبوبة والتي يستغلها الاحتلال بل يزيدها بهدف التضييق عليه؛ وخلال الغيبوبة كانت تتوارد الأخبار يوميا للعائلة أنه استشهد فتهاتف المحامي وهي مرتعبة لينفي لها ذلك ويقول "وضعه خطير ادعوا له".
١٨يوما أمضاها محمد في مستشفى "هداسا" مكبلا بالسرير ويواجه أوجاعه العميقة، وفي اليوم السابع عشر توجهت عائلته إلى هناك على أمل رؤيته بعد اتصال الصليب الأحمر بهم، فأسرع الوالدان إلى المشفى وبعد صعوبة في البحث عن غرفته توجها إليها ولكن الجنود منعوهما من الدخول فلم تر والدته إلا قدميه وكانتا صفراوين في إشارة إلى النزيف الشديد الذي تعرض له.
بعد ذلك تم نقل محمد إلى سجن الرملة قبل أن يستكمل علاجه؛ وتم إبلاغ عائلته بالسماح بزيارته هناك ولكنها منعت من ذلك حين وصلت إلى السجن، وبعد شهرين كاملين كان اللقاء الأول في قاعة المحكمة المركزية بالقدس لترى الأم ابنها المدلل للمرة الأولى بعد اعتقاله.
وتقول:" كان شخصا آخر لا يشبه محمد، كان أصفر اللون ونحيلا جدا، وجالسا على كرسي متحرك ومكبلا من قدميه ويديه التي أصيبت بالرصاص كذلك، ولكننا حين رأيناه حاولنا الصبر وعدم الانهيار وكان هو شجاعا للغاية وغير متأثر بكل ما يحدث وكانت ابتسامته بلسما لنا جميعا بعد هذه الفترة المؤلمة التي عشناها".
إرادةٌ تأبى الانهزام
"لا تكترثوا لحكمهم ومحاكمهم فأنا غير نادم وأعلم أن الحكم سيكون عاليا، لا تهتزوا لأحكامهم".. هذه كانت كلمات محمد في جلسة المحاكمة لتظهر قوته وإرادته وصلابته، ولكن والدته بقي ذهنها مشغولا على ابنها ووضعه الصحي وكيف يتدبر أمره مع كل هذه الإصابات.
وتصف الوالدة نجلها الذي كانت علاقته مميزة معها ومختلفة عن بقية أبنائها؛ فكانا كالأصدقاء يتحدثان دائما ولا يخفي عنها شيئا، وكان الابن الحنون الهادئ الذي يحب عائلته.
ورغم صعوبة حالته الصحية بقي الاحتلال يقدم له المسكنات فقط ويهمل في علاجه كليا؛ حتى بات يحتاج لعملية جراحية في يده يماطل الاحتلال في إجرائها؛ كما كبر الخوف لدى عائلته على حالته الصحية بسبب معاناته وهو صغير مع المرض.
وتبين والدته بأن محمد عانى من قصور في الأربطة وتكلس في ذراعه الأيمن؛ وبالتالي لم يتمكن من القيام بأبسط الأمور الحياتية كالطعام والشراب، والرصاصات الثمانية التي انتشرت في جسده كانت إحداها قريبة من العمود الفقري وسببت له آلاما مضاعفة وأخرى قريبة من القلب، وعدة رصاصات في يده اليمنى.
٢٥عاما كان الحكم على محمد بسبب تنفيذه العملية؛ كانت صدمة على عائلته ولكنه لم يكترث لذلك رغم ما يعانيه من آلام.
وما زالت الأم تناشد حتى الآن لإطلاق سراحه وعلاجه؛ وتعقد آمالها في قدرة الله أولا ثم صفقة مشرفة تبرمها المقاومة تشمله وتشمل كل الأسرى الذين يحلمون بالعودة لمنازلهم.
وتختتم الأم قائلة:" أشتاق لمحمد كثيرا وأتمنى أن أراه خارج الأسر، فهو قطعة من قلبي وهو المقرب إليّ ولا يغيب عن ذهني لحظة واحدة".