لأن السجن لا يعني سوى الحرمان يمعن الاحتلال في استخدامه؛ ولكن الصبر والنَفَس القوي سمات تنغرس فيمن اختارهم الله ليكونوا قامات عالية تأبى الانكسار في مقابر الأحياء.
ولعل حكاية الأسير هاشم الصوص (٥٤ عاما) من بلدة أبو شخيدم شمال رام الله ترتسم فوق ربى الوطن لتشمل لوحة جهاد عظيمة وهو صامد في أسره بعيدا عن عائلته التي ذاقت الأمريّن في غيابه، بينما كان أخذ على عاتقه أن يجاهد في سبيل الله ضمن خلايا كتائب القسام التي أوجعت المحتل في بداية انتفاضة الأقصى.
حكاية صبر
في الثاني والعشرين من كانون الأول عام ٢٠٠٣ وبينما يلقي كانون بثقل شتائه وبرده القارس؛ كانت عائلة الصوص تنتظر مصيرا قاسيا، حيث اقتحمت المنزل قوات مدججة من جنود الاحتلال لتبدأ منذ تلك الساعات حكاية الصبر.
وتقول أم طارق زوجة الأسير لـ مكتب إعلام الأسرى إن قوات الاحتلال اعتقلت زوجها في تلك الليلة ونقلته إلى جهة مجهولة؛ وتخلل ذلك تخريب وتحطيم لمحتويات المنزل الذي حوى ذكريات دافئة.
وبعد الاعتقال أدخل الأسير للتحقيق حول عمله في الخلية التي ترأسها المحرر إلى قطاع غزة جاسر البرغوثي والتي نفذت عدة عمليات نوعية أسفرت عن مقتل عدد من الجنود.
وتتابع أم طارق القول بأن التحقيق استمر قرابة الشهرين ونصف والتي تعرض خلالها الأسير للتعذيب الجسدي والنفسي بينما لم تكن العائلة تعرف عنه شيئا، ثم وبعد خروجه من تلك الزنازين علمت عن طريق المحامي أنه تعرض لضربة قاسية في ظهره حين تم إدخاله بوحشية إلى إحدى الآليات العسكرية، ما أدى إلى آلام مبرحة استمرت معه فترة طويلة.
ولأن الاحتلال لا يريد سوى تنغيص حياة العائلات الفلسطينية قام بهدم منزل الأسير وتشريد عائلته بعد ٤٠ يوما من اعتقاله، فلم تشفع له صرخات الأطفال في برد شديد ومنزلهم يهدم أمام أعينهم.
وتوضح أم طارق بأن تلك الأيام كانت الأصعب؛ حيث كان أبناؤها سبعة أكبرهم طارق والذي كان آنذاك يبلغ من العمر ١٢ عاما، وأصغرهم "يحيى" الذي كان يبلغ من العمر شهرين ونصف فقط، مبينة بأن هدم المنزل كان الضربة القاسية الثانية التي تلقتها العائلة خلال أقل من شهرين.
وبدأت بعدها العائلة رحلة التشتت لتستأجر منزلا صغيرا وتمكث فيه ثلاث سنوات؛ وخلال ذلك نطقت محكمة الاحتلال الظالمة بالحكم على الأسير ليكون كالصاعقة على عائلته، حيث أصدر الاحتلال عليه حكما بالسجن المؤبد أربع مرات و٤٠ عاما.
وبعد ثلاث سنوات تمكنت العائلة من بناء منزل صغير يأويها لتبدأ رحلة بناء ذكريات أخرى ولكنها مختلفة إذ أن الوالد في الأسر؛ والأم تلعب الدورين معاً وتربي أطفالها السبعة وتعلمهم أن حب الوطن يحتاج مزيدا من التضحيات.
ولكن الضربة الثالثة كانت الأقسى والأصعب؛ حيث توفى الله الطفل يحيى أصغر أطفال الأسير هاشم، وأعادت العائلة تلملم جرحها من جديد بأيقونة الصبر التي اعتادت عليها وبرعاية من الله الذي لا ينسى عباده الصابرين.
اعتقال ياسر
ومنذ اعتقال الوالد لم تهدأ قوات الاحتلال في استهداف العائلة؛ حيث اقتحمت المنزل عدة مرات وقامت بأعمال تفتيش وتخريب على مدار السنوات الطويلة التي أمضاها في الأسر.
وحين بلغ طارق ١٨ عاما من عمره اعتقله جنود الاحتلال ليمضي عشرة أشهر بحجة مشاركته في إلقاء الحجارة صوب الآليات العسكرية، ثم أعادوا الكرة قبل فترة وقاموا بضربه واعتقاله لساعات.
وفي الثامن والعشرين من شهر آذار/ مارس الماضي اقتحم الجنود من جديد منزل العائلة الصابرة، ليتم اعتقال نجله ياسر (١٩ عاما) ونقله إلى جهة مجهولة ثم الحكم عليه بالسجن لمدة ٢٢ شهرا وغرامة مالية بقيمة خمسة آلاف شيكل.
وتمر الأيام ويكبر الأبناء بينما السجن يترك آثاره في جسد الأسير ويقابلها هو بالثبات والاتكال على الله والأمل بالحرية.
وتضيف أم طارق:" أملنا بالله دوما أن يجمع شملنا من جديد وأن يعيد وحدة عائلتنا التي فرقتها السجون، كما أن مناسبات عديدة مرت دون أن يكون رب الأسرة موجودا معنا ليعيشها، مثل زواج بناته اللواتي كنّ صغيرات حين اعتقل، والآن أصبح لديه أحفاد في ذلك العمر".
أما إجراءات الاحتلال فلا تتوقف؛ فحتى الزيارة حرم زوجته منها طيلة ١٦ عاما تحت إطار المنع الأمني، بينما عانى الأسير من أمراض السكري والضغط وآلام الساقين وتم تحويله إلى المستشفى بعد معاناته الشديدة، فتعرض للإهمال الطبي في الأسر أسوة بآلاف الأسرى الذين يعانون لعدة أشهر قبل أن يتم فحصهم أو تقديم العلاج لهم.